story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حروب الذكاء الاصطناعي

ص ص

لا شك أن كل واحد منا قد لاحظ بشكل أو بآخر ما اجتاح دول العالم من هوس جماعي حول الذكاء الاصطناعي، بحيث لم يعد الأمر مجرد سباق علمي أو تنافس اقتصادي، بل صار إلى ما يشبه حالة استنفار وجودي شاملة. فالكل يسابق الكل ويسابق قبل ذلك وبعده الزمن للحاق بالركب الذي انطلق ولا ينتظر أحدا. والكل مدفوع بهاجس واحد، الخوف من التأخر أو التخلف عن قطار الذكاء الاصطناعي الذي يُنظر إليه بوصفه “السلاح الأبيض الجديد”. لا يُطلق النار، لكنه يوجه الاقتصادات، ويعيد رسم الخريطة الجيوسياسية، ويخلق واقعا رقميا سيقصي حتما من لا يمتلك أدواته، حتى لو كان دولة ذات تاريخ مجيد أو نفوذ سياسي مديد.

إنها لحظة تاريخية فارقة، تشبه في جوهرها ما حدث خلال المراحل الحاسمة من التحولات التكنولوجية الكبرى. فمع أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، لم تعد مساحة الدول أو عدد جنودها هو مقياس القوة فقط، بل قوتها الصناعية وقدرتها على فرض إرادتها عبر التكنولوجيا من خلال السفن البخارية والمدافع الحديثة. في حين اعتُبر السباق المحموم نحو التسلح النووي ذروة ما يمكن للعلم أن يبلغه من أدوات الردع والهلاك منتصف القرن العشرين. وها نحن نشهد اليوم تكرارا لذلك النمط، ولكن هذه المرة على شكل خوارزميات وأنظمة تعلم آلي، تقيس فيها الأمم وزنها العالمي ليس بعدد دباباتها، بل بقدرتها على تدريب النماذج اللغوية وتوليد البيانات وفهم السلوك البشري آليا.

لم يأت الرعب الجماعي الذي يسود العواصم العالمية من فراغ، فكل دولة باتت تدرك أن من يفوت فرصة الريادة في الذكاء الاصطناعي اليوم، قد يستفيق غدا ليجد نفسه وقد انزلق إلى مصاف دول العالم الثالث، أو أسوأ، خارج معادلة التأثير بالكامل. فالأمر لا يتعلق فقط بالنمو أو الرفاه، بل بالبقاء نفسه في عالم بات الذكاء الاصطناعي يقارن فيه بالبوصلة التي تحدد اتجاه المستقبل، ومن لا يحملها سيضيع في متاهة التاريخ. فهو سباق عالمي لا مكان فيه للرحمة، ولا مجاملة فيه لحليف إستراتيجي أو شريك استثنائي. وحدها الدول التي تستثمر في البنى التحتية الرقمية، وتنمي قدراتها البحثية، وتسيطر على سلاسل إمداد الشرائح والبيانات، هي التي سيكون لها موطئ قدم. أما البقية، فإما أن تصبح أسواقا مستهلكة لا أكثر، أو أن تمحى تدريجيا من ذاكرة النفوذ العالمي.

لقد أصبح الذكاء الاصطناعي قضية استراتيجية تتصدر اهتمامات القوى الكبرى، بما يحمله من إمكانات لقلب موازين القوة عالميا. ويتجلى ذلك بوضوح في أول اتصال رسمي جرى يوم 12 فبراير 2025 بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، حيث لم يتطرق الزعيمان إلى الملفات التقليدية كالأسلحة النووية أو التغير المناخي، بل ركزا على قضايا آنية كالأزمة الأوكرانية والطاقة، إلى جانب إدراج الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز محاور النقاش. وهو ما يعكس حجم التحدي الذي باتت تمثله هذه التكنولوجيا في نظر صناع القرار الدوليين. بحيث لم يعد مجرد أداة تقنية متطورة أو ابتكارا معلوماتيا محصورا في مجالات البحث العلمي والتطبيقات الصناعية، بل تحول خلال السنوات الأخيرة إلى قضية استراتيجية من العيار الثقيل، حتى بات يدرج على رأس جدول أعمال القوى العظمى. ويعكس هذا التحول إدراكا متزايدا لديها بأنه بكل ما يحمله من إمكانيات وتحولات جذرية، قد أصبح ساحة تنافس جديدة، قد لا تقل أهمية أو خطورة عن سباق التسلح النووي الذي هيمن على السياسات العالمية في منتصف القرن الماضي.

ففي عالم اليوم، لم يعد ميزان القوى يقاس بعدد الرؤوس النووية أو عدد الجنود، كما كان الحال في زمن الحرب الباردة. بل دخلنا حقبة جديدة من الصراع العالمي يشكل فيها الذكاء الاصطناعي ساحة التنافس الرئيسية، وصار التفوق فيه معيار القوة الحقيقي. فالدول لم تعد تتسابق فقط لتطوير جيوشها، بل لتطوير خوارزميات قادرة على التحكم في الاقتصاد، والتجسس السيبراني، والتأثير على الرأي العام، وحتى اتخاذ قرارات الحرب والسلم. وفي هذا السياق، تتزايد التحذيرات من الاستخدام غير المنضبط لهذه التكنولوجيا. وهو ما أثاره “سام ألتمان”، الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي” المطورة لـ”تشات جي بي تي”، خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأميركي، إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يتسبب في ما وصفه بـ”ضرر كبير للعالم”، داعيا إلى ضرورة وضع ضوابط صارمة. فحين تعتمد الدول على تقنيات لا تملك مفاتيحها، تصبح عرضة للتحكم عن بُعد، أو الحرمان من التحديثات الحيوية، أو التوقف المفاجئ في لحظات حرجة. وبالتالي، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تقدم إلى سلاح استراتيجي بالغ الخطورة يمكنه أن يغير طبيعة الوظائف، والاقتصادات، وحتى مفهوم السيادة الوطنية.

وما يجعل الذكاء الاصطناعي خطرا استراتيجيا لا يقتصر على قدراته التقنية المتقدمة، بل يكمن أساسا في طبيعته اللامركزية وسهولة امتلاكه. فقد ألغت هذه التكنولوجيا حدود القوة التقليدية التي لطالما احتكرتها الدول العظمى. فلم يعد التفوق اليوم محصورا بمن يمتلك ترسانة نووية أو حاملات طائرات، بل بمن يملك عقولا مبدعة، ومنظومة تعليمية مرنة، وقدرة على تطوير خوارزميات فعالة. وهذا ما يفتح الباب أمام دول صغيرة أو ناشئة للدخول إلى ميدان التأثير العالمي، وتهديد موازين القوى الراسخة في مجالات الأمن السيبراني، والاستخبارات، والاقتصاد الرقمي، بل وحتى التأثير الإعلامي. ومن هنا، تبرز الخطورة الكبرى؛ فإتاحة الذكاء الاصطناعي بشكل واسع يمثل سيفا ذو حدين. فمن جهة، يمنح الدول النامية فرصة لتجاوز الفجوة التاريخية مع القوى الكبرى (إن استغلت الفرصة طبعا)؛ لكن من جهة أخرى، يربك التوازنات الجيوسياسية، ويجعل من الصعب التنبؤ بمصدر التهديد. فالسلاح الجديد لم يعد مرئيا، ولا يأتي دوما من جيوش تقليدية، بل من مراكز بحث صغيرة أو حتى من مبرمجين منفردين.

إن تزاوج الذكاء الاصطناعي مع سباقات التسلح الحديثة يضع العالم أمام منعطف خطير وغير مسبوق، حيث باتت القرارات العسكرية تُتخذ في أجزاء من الثانية، أحيانا دون إشراف بشري مباشر، وهو ما يهدد بنسف قواعد الاستقرار الدولي التقليدية. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة هذا التحول بوضوح، من انقطاع الكهرباء المفاجئ في مناطق واسعة من إسبانيا والبرتغال، إلى الهجمات السيبرانية المتبادلة في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وصولا إلى المواجهات الرقمية بين الهند وباكستان. كما أن الأضرار الاقتصادية التي لحقت بشركات كبرى بسبب هجمات إلكترونية أصابت أنظمتها بالشلل تؤكد أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تكنولوجية، بل صار سلاحا استراتيجيا قادرا على زعزعة الاقتصادات، وخلخلة منظومات الدول من الداخل. وبهذه الإمكانيات الخارقة، يمكن له أن يعيد رسم خرائط النفوذ لا عبر التوسع الجغرافي أو الحروب التقليدية، بل من خلال تفكيك الجغرافيا السياسية بصمت، عبر إضعاف الدول من الداخل، وزرع الشك في قدراتها، وتفتيت تماسكها المؤسساتي والاستراتيجي دون طلقة واحدة.

وفي هذا السياق، شكل منح جائزة نوبل لكل من “جيفري هينتون” و”جون هوبفيلد” سنة 2024 في الفيزياء لحظة فارقة في مسار العلم المعاصر، ليس فقط بوصفه تكريما لإنجاز علمي بارز في مجال الشبكات العصبية، بل باعتباره إشارة قوية إلى أن الذكاء الاصطناعي قد أصبح في قلب الاهتمام المؤسسي العالمي. فالجائزة التي ارتبطت لعقود بالاكتشافات الكبرى في ميكانيكا الكم والفيزياء الفلكية، منحت هذه المرة لعلماء أسهموا في تطوير تكنولوجيا باتت اليوم في صلب التنافس الجيوسياسي وصياغة التوازنات الدولية. هذا التحول في منحى التتويج العلمي يكشف أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية واعدة داخل المختبرات، بل أصبح أداة استراتيجية تعيد تشكيل موازين القوى العالمية، وتدفع الدول إلى سباق تكنولوجي محموم لا تقوده القواعد العسكرية، بل المختبرات البحثية والخوارزميات الذكية. وكما غيّر السلاح النووي معادلات القوة في القرن الماضي، يُنذر الذكاء الاصطناعي اليوم بإعادة صياغة النظام الدولي بأكمله. ولعل الأهم من الجائزة ذاتها هو ما تمثله من إقرار ضمني بأن التحدي لم يعد علميا فقط، بل بات مؤسسيا وأخلاقيا، حيث أصبح من الضروري وضع أطر تنظيمية دولية تحكم هذا المجال، قبل أن تتحول قدراته الخارقة إلى تهديد وجودي على البشرية، في حال تُرك السباق مفتوحا بلا ضوابط.

وفي خضم السباق العالمي المحموم نحو الريادة في الذكاء الاصطناعي، بدا واضحا أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا ينظر إلى هذه التكنولوجيا بوصفها مجرد أداة للابتكار أو النمو الاقتصادي، بل كرهان جيوسياسي وجودي لا يُسمح بخسارته. ومن هذا المنطلق، بُذلت جهود هائلة لكبح طموحات الصين التقنية، عبر فرض قيود صارمة على تصدير مكونات رئيسية مثل الرقائق الإلكترونية المتقدمة، واستهداف شركات صينية كبرى بالإدراج في القوائم السوداء، بل والضغط على حلفاء مثل هولندا وكوريا الجنوبية لمنع تزويد بكين بأحدث معدات طباعة الشرائح الدقيقة. غير أن هذه الاستراتيجية التي هدفت إلى محاصرة الصين في مفاصل التقنية الاستراتيجية، واجهت صدمة غير متوقعة مع الاختراق الذي حققته شركة الذكاء الاصطناعي الصينية DeepSeek في فبراير 2025. ففي ظرف أيام قليلة، حققت من حيث الأداء ما أقلق السوق الأميركية إلى حد دفع المستثمرين إلى موجة بيع عارمة بلغت خسائرها نحو 2 تريليون دولار، وسقوطا حادا في أسهم شركات التكنولوجيا، وعلى رأسها شركة Nvidia التي خسرت 16% من قيمتها في يوم واحد.

هذه الخطوة لم تكن مجرد إعلان تفوق، بل تكتيك استراتيجي يعكس رغبة الصين في تغيير قواعد اللعبة، وهي الانتقال من المنافسة داخل النظام الذي أسسه الغرب، إلى صياغة نظام بيئي بديل، أكثر انفتاحا واستقلالية. إنها لحظة تحول عميقة تؤشر على أن حروب الذكاء الاصطناعي لم تعد تقتصر على الشركات، بل أصبحت ساحة صراع كبرى بين القوى العظمى، تقاس فيها الهيمنة بعدد النماذج المتقدمة، وسرعة التعلم، وقدرة هذه النماذج على اختراق الأسواق والأنظمة. وفي هذا السياق، يدرك الغرب أن السيطرة على الذكاء الاصطناعي لا تتحقق فقط عبر البيانات والخوارزميات، بل تمر أيضا عبر احتكار البنية التحتية العميقة: الشرائح المتقدمة، الحوسبة الكمومية، ومراكز المعالجة الفائقة. ولهذا، فإن الحصار التكنولوجي على الصين لم يكن هدفه إبطاء تطورها فقط، بل عرقلة قدرتها على دخول المرحلة المقبلة من السباق وهي سباق الحوسبة الكمومية، التي تعد بمثابة “السلاح الاستراتيجي” للقرن الحادي والعشرين، لما لها من قدرة على كسر الشيفرات وتأمين الهيمنة السيبرانية والمعرفية.

لكن التجربة الصينية مع DeepSeek أظهرت أن هذا الحصار لم ينجح في احتواء الطموح، بل ربما ساهم في تسريع وتيرة التطوير الداخلي، وإجبار الصين على تطوير منظومتها الذاتية دون الاعتماد على الغرب. وهكذا، انقلبت أدوات الحصار إلى محفزات للنهوض، وبدل أن تبقى الصين خلف ركب الذكاء الاصطناعي، وجدت لنفسها موقعا متقدما يربك المعسكر الغربي. ونتيجة لذلك، فإن ما يجري اليوم ليس صراعا على الأسواق، بل صراع على مستقبل العالم. ومن يتحكم في الذكاء الاصطناعي، يكتب خريطة القوى القادمة. والصين، رغم الحصار، تبدو اليوم أكثر استعدادا للعب هذا الدور، ولقلب موازين التفوق التكنولوجي التي ظل الغرب يحتكره لعقود.