أكاديميون يحذرون من “انهيار منظومة القيم” وتكريس القدوات السيئة

في ظل التحولات المتسارعة التي بات يعرفها المغرب على مستوى منظومة القيم، يطفو على السطح مشهد تهيمن عليه الرداءة وتغيب عنه الكفاءة لصالح التفاهة، وتتراجع الأصوات الواعية والمبادرات البناءة لصالح منطق السطحية، والفراغ الفكري، ما يجعل من “الرداءة” ليس فقط توصيفا عابرا، بل سمة ملازمة للحياة العامة ومؤشرا على أزمة أعمق تضرب في الجذور.
في هذا الصدد، حذّر أكاديميون مغاربة من خطورة تصدّر نماذج اعتبروها “ساقطة” و”مسيئة للقيم” للمشهد الإعلامي والثقافي بالمغرب، مشددين على أن الأمر لا يقف عند حدود الأداء المؤسساتي أو ضعف النخب، بل يمتد إلى تفكك منظومة القيم التي طالما شكلت رافعة للتماسك الاجتماعي والأخلاقي.
وفي هذا الإطار، عبّر الأكاديمي المغربي عبد العالي الودغيري عن قلقه العميق من حالة الرداءة التي تهيمن على المشهد، محذراً من “انهيار منظومة القيم، وتفكك الأسرة، وتخريب المجتمع بفعل تعميم التفاهة والتتفيه من طرف مؤسسات يفترض أنها حامية للشباب وموجهة له”.
وأشار الودغيري في تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، إلى أن الجهات والمؤسسات المسؤولة المفترض أن تكون في طليعة حماة الشباب، تسهر على توجيههم نحو المواطنة الصالحة وتعزيز روح التنافس على الفضائل، “أصبحت للأسف جزءًا من المشكلة، بحيث تساهم أحيانًا في تفتيت المجتمع من خلال التمييع والتتفيه، وتشجيع النماذج الساقطة، وصنع قدوات سيئة، وانتشار المحتوى الرديء”.
وشدّد على أن مجرد الصمت حيال هذه الظواهر “هو جناية كبيرة” تُحسب على المسؤولين، مشيراً إلى أن “الأمر يزداد خطورة حين تدفع هذه الجهات نفسها البلاد نحو مصير مجهول، يهدد مستقبل أبنائنا وأحفادنا”.
من جانبه، عبر رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحات التربوية ;كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، خالد الصمدي، عن قلقه البالغ إزاء ما وصفه بموجة منظمة يصعب القول إنها عفوية من الاحتفاء بنماذج “سلبية تتصدر المشهد الرقمي بمضامين منحطة وألفاظ سوقية”، وتُروّج كقدوات يُحتذى بها في أوساط الشباب، داعياً إلى إعادة النظر في توجهات تسليط الضوء على النماذج التي تمثل قدوة حقيقية تعزز منظومة القيم الوطنية والتربوية.
واستنكر الصمدي، أن تقوم وزارة الثقافة “بتكريم أحد هذه النماذج المثيرة للجدل، والذي اشتهر بمحتوى لا يليق، في مقابل تجاهل تام للشباب المغربي الحقيقي”، الذي تألق على الساحة الدولية في مجالات متعددة كالعلم، والاختراع، والرياضة، والثقافة.
وأوضح المسؤول الحكومي السابق أن مسألة القدوة بالنسبة للأجيال الصاعدة، لا سيما المراهقين، تُعد أمرًا بالغ الأهمية، مشيراً إلى ما يُعرف بـ”التثقيف بالنظير”، وهي نظرية تربوية تؤكد أن الشباب يتأثرون بشكل كبير بأقرانهم ومحيطهم الاجتماعي، سواء في العمر أو الاهتمامات أو الدوافع.
وأضاف المتحدث أن “هذا الوضع يستدعي دق ناقوس الخطر”، خاصة وأننا في نهاية سنة دراسية، في وقت نحن في أمسّ الحاجة فيه إلى تحفيز منظومة التربية والتعليم وتعزيز الأخلاق، وتقديم القدوات الجيدة، مشددا بالقول : “إذا بدأنا نكرّس النماذج السلبية كقدوات، فإننا بذلك نهدم ما تبنيه المدرسة والأسرة والمجتمع من قيم”.
ودعا الصمدي إلى العودة إلى التوجيهات الملكية، التي حذرت من خطورة ما تواجهه منظومة القيم من اهتزازات، خاصة في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، وانتشار الذكاء الاصطناعي، وتغيرات البنية الأسرية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، اعتبر الأكاديمي خالد الصمدي أن “وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت منصة للتأثير المباشر على سلوك الشباب، مما يوجب علينا جميعاً التحلي بأقصى درجات الحذر والانتباه للنماذج التي نقدمها أو نحتفي بها”.
وذكّر في هذا الصدد بتنبيهات الملك محمد السادس في خطاب العرش لسنة 2018، وكلمته الافتتاحية للبرلمان في أكتوبر الماضي، حينما شدد على خطورة التحديات التي تهدد منظومة القيم المغربية، داعياً الفاعلين في مجالات الإعلام، التعليم، الاقتصاد، والثقافة إلى التحلي باليقظة والجدية في التصدي لهذه التهديدات.
وأكد المتحدض ذاته، أن الحاجة اليوم أصبحت ماسة لبناء منظومة تربوية مغربية متماسكة، تقوم على القيم الدينية والوطنية، وتنفتح بشكل متوازن على القيم الكونية، بشكل يُحصّن المواطن من الانجراف، ويعزز هويته في ظل عالم سريع التغير.
وفي هذا الإطار، شدد على ضرورة تكامل جهود كل الأطراف، لإعادة قطار الإصلاح إلى سكته الصحيحة، خصوصًا في ميادين التعليم والإعلام والثقافة، وهو ما يتطلب حسب قوله “مخططات واضحة وسياسات عمومية بعيدة المدى”.
كما دعا إلى تفعيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي المنصوص عليه في دستور المملكة، والذي يُفترض أن يكون منصة وطنية للحوار وتقييم واقتراح السياسات العمومية في مجالات التربية، الإعلام، الثقافة، والرياضة.
وركز الصمدي على ضرورة الاستثمار في الإنسان من أجل اللحاق بركب الدول المتقدمة في هذا المجال، لافتا إلى أنه “لا معنى لأي إنجاز عمراني أو بنية تحتية في غياب الاستثمار في الإنسان، بحيث إن المغرب قطع أشواطاً كبيرة في مجال البنيات، لكن ما زال أمامنا عمل شاق وطويل في مجال بناء الإنسان وتقديم قدوات سليمة ونبيلة”.
وخلص المسؤول الحكومي السابق إلى دعوة صناع القرار “للعودة إلى المرجعية الملكية، والاسترشاد بخطابات الملك، والعمل الجاد على وضع سياسات مندمجة موجهة للشباب، تقوم على بناء القيم وتعزيز الهوية”، في مواجهة المتغيرات المعقدة التي يعرفها عالم اليوم.