story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جيل على الحافة

ص ص

كان يمكن أن تمرّ ليلة عاشوراء نهاية الأسبوع الماضي، كما في ذاكرة الأجيال السابقة. أي كمناسبة رمزية للفرح الطفولي، ونفَسا خفيفا من تقاليد الجماعة، وانعكاسا لعلاقة المغاربة بالزمن الديني الشعبي.

لكنها في عدد من مدن المغرب، تحوّلت هذه السنة إلى ما يشبه التمرين العنيف على الانفجار الاجتماعي.

غابت المفرقعات و”القنابل” المزعجة، لكن حضرت قنينات الغاز والنيران التي تلتهم الإسفلت وتهدّد الأرواح.

قنينات غاز تنفجر، إطارات مطاطية مشتعلة، مراهقون مقنّعون يرشقون القوات العمومية بالحجارة، سيارات تحترق، أصوات فرقعات تتداخل مع صراخ الأهالي… مشهد أقرب إلى الفوضى المنظمة، لكنه يعكس ما هو أعمق من مجرد شغب مراهقين، إنه نار هادئة تحت رماد مجتمع يعاني.

المقلق في هذه الانفجارات المتكررة كل سنة، ليس فقط تصاعد منسوب العنف، بل غياب ردود الفعل المؤسسية الكافية لفهم الظاهرة.

فالمقاربة الأمنية، رغم ضرورتها لحفظ النظام العام، تبقى قاصرة إن هي وُضعت في الواجهة بدل أن تكون جزءا من منظومة أوسع.

والسؤال الأهم ليس “كيف نوقف هذه الفوضى؟”، بل: “لماذا وصلنا إلى هنا؟”.

لننظر إلى الأرقام الرسمية بدل البناء على الانطباعات:

ما يزيد عن مليوني شاب مغربي بين 15 و24 سنة لا يدرسون، ولا يشتغلون، ولا يتابعون أي تكوين مهني.

هذه الفئة المصنّفة ضمن مؤشر NEET أصبحت تشكّل قنبلة موقوتة لا تبدو الدولة مهتمة كثيرا بإزالة فتيلها.

إلى جانب ذلك، تسجّل المملكة نسبا مرتفعة في الهدر المدرسي، حيث ينقطع سنويا مئات الآلاف من التلاميذ، أغلبهم في التعليم الإعدادي والابتدائي، دون أن يجدوا بديلا واضحا أو سياسة إدماج حقيقية.

فماذا ينتظر إذن من شاب غادر المدرسة مبكرا، ولم يلج سوق الشغل، ولم يظفر حتى بمقعد في تكوين مهني؟ بماذا يملأ الفراغ؟ ومن يملأه له؟

في غياب التعليم، تغزو الشارعَ “يوتوبيات سريعة” قائمة على التحدي، والتخريب، وإثبات الذات عبر العنف أو “الفرجة العنيفة”.

وهنا تتقاطع عوامل متعددة: فقر مادي، وهشاشة أسرية، وانسحاب القيم التربوية التقليدية، وتراجع أدوار المدرسة والمسجد والجمعيات.

حيّ مثل سيدي موسى بسلا، أو دروب في سطات والدار البيضاء، لم يعد يحتمل ما يسمّى في الأدبيات الرسمية بـ”الخصاص التنموي”، بل بات يشهد انفجارات رمزية تخبرنا أن هناك أجيالا لم تعد تعبأ بالسرديات الكبرى التي بُنيت بها الدولة بعد الاستقلال: لا التعليم كرافعة، ولا الشغل كأفق، ولا حتى الأمن كهيبة…

في هذه المناطق، أصبح “الاحتفال” يتمّ بالحرق والتفجير، والعيد يتحوّل إلى تحدّ لقوات الأمن، والذكرى الدينية تتحوّل إلى لحظة لإبراز التمرّد أكثر من الانتماء.

المثير أن العديد من المقاطع المصورة التي تناقلها المغاربة، أظهرت انخراطا جماعيا في العنف: أطفال صغار، ومراهقون، وشباب، وأحيانا حتى من يبدو من الراشدين.

مشاهد لا تندرج فقط في خانة “الشغب”، بل تشير إلى حالة وجدانية جماعية: الغضب، والاحتقان، والبحث عن متنفس خارج منظومة القانون.

الأنكى من ذلك، أن الأصوات التي تطالب بـ”تدخل صارم” و”الردع الأمني” وحده، تتجاهل أن الشارع لا ينتج العنف من فراغ.

فحين يُترك الجيل الجديد للمجهول، وتتآكل المدرسة العمومية، وتُهجر الجمعيات، وتُختزل أدوار الجماعات المحلية في “الزبل والواد الحار”، فمن الطبيعي أن يكون البديل هو الانفجار، حتى وإن استعار طقوس عاشوراء.

وهنا تبرز الحقيقة المقلقة: المستقبل لن يكون أسهل، بل أصعب. لأن الجيل الذي يُربّى اليوم على العزلة الرقمية، والانقطاع عن المدرسة، وفقدان الثقة في المؤسسات، سيجد نفسه غدا أكثر عدوانية، وأكثر حيرة، وأقل قدرة على الانخراط الإيجابي في المجتمع.

مهمة تنشئة الأجيال لم تعد وظيفة تقليدية تتكفل بها الأسرة والمدرسة وحدهما، بل هي تحدّ بنيوي معقّد، يتطلب إعادة هندسة العلاقة بين المجتمع والدولة، بين الشباب والفضاء العام، بين الفرد والمؤسسة.

في سياق تزايدت فيه الهشاشة النفسية والاجتماعية، وتوسّعت فيه رقعة الإحباط الجماعي، لم يعد العنف مجرد سلوك طائش، بل بات نتيجة مباشرة لانهيار المسارات الطبيعية للتنشئة والتواصل والاندماج.

وفي ظل هذا الواقع، تصدّر خطاب “التحقير المتبادل” المشهد، ليس فقط على المنصات الرقمية التي أصبحت ساحات للتنمر والتبخيس والتشهير، بل تسلّل هذا الخطاب إلى النقاش العمومي ذاته، حيث بات التخوين أسهل من الاختلاف، والتشكيك أسرع من التفنيد، والعدوانية أقرب من التعاطف.

في هذا الجو المشحون، لا يمكن الحديث عن أفق وطني مشترك دون أن نشرع أولا في ترميم الثقة التي تصدّعت بين الأفراد، وبين المواطن والدولة، وبين الفئات المجتمعية المختلفة.

وما لم ننجح في إعادة الاعتبار لفضاء التعبير المدني، وتشجيع النقاش المسؤول بدل ترهيبه أو تسخيفه، وتطوير آليات الحوار المجتمعي والمؤسساتي بشكل يتيح لكل فئة أن ترى نفسها ممثلة ومُصغى إليها، فإن المسافة بين الدولة وشبابها، وبين السياسة والمجتمع، ستزداد اتساعا، إلى الحد الذي يصبح فيه الصمت انفجارا مؤجلا، والكلام صراخا غير مفهوم.

إننا بحاجة ماسة إلى مقاربات تعيد الاعتبار للمعنى، وتُحَوِّل النقاش العمومي من مسرح للعراك اللفظي، إلى ورشة لبناء الفهم المتبادل.

دون ذلك، لن تكون المواسم الدينية وحدها مسرحا للانفجارات، بل سيتحوّل كل طقس وكل لحظة رمزية إلى فرصة لتصريف الاحتقان… في بلد صار فيه الصمت فخّا، والكلام عبئا، والثقة عملة نادرة تتآكل.

إن الجيل الصاعد لا يريد فقط من يسمعه، بل يبحث عمّن يفهمه. لا يطالب بالحلول الجاهزة، بل بحقه في أن يكون جزءا من الحل.

ومن هنا، فأكبر خطأ ترتكبه السلطة والمجتمع معا، هو أن يكتفيا بالتأفف من العنف، دون أن يسألا نفسيهما: من أطلق شرارته؟ ومن صمت وهو يشتعل؟

إن الأمن الحقيقي لا يُبنى فقط بالسدود الأمنية، بل ببرامج الإدماج، والعدالة المجالية، والخيال السياسي التربوي.

والعنف الذي شهدته بعض المدن المغربية ليلة عاشوراء، لا يعبّر عن “هامش طائش”، بل رسالة من المركز تقول:

“أنقذوا ما تبقّى من الطمأنينة… قبل أن يصير العنف هو اللغة الوحيدة المتاحة، والصراخ هو البديل الوحيد عن الصمت.