طوطو يا دولة

وقد انقسمت الآراء، نبحث عن مساحة فهم. لن يكون من وَكْدِ هذه المقالة الانتصاب قاضياً، بحثا عن إدانة، أو تبرئة، أو فرض “غرامات أخلاقية”. تنشغل هذه السطور بالفهم قبل التحيّز.
دخل مغنّي الراب طوطو بيوت المغاربة عبر قناةٍ مموّلة من المال العام. سمع الناسُ ما كان “غير مقبولٍ”، بتعابير خادشة ( وهل من سبيل إلى عدم التحيّز؟). ما كان يُفترضُ أن يتفاجأَ أحدٌ، ومع حقّ كل أحدٍ في الرفض. وحجّة الغاضبين من “تسرّب” عبارات يرونها غير لائقة عبر الشاشات أقوى، وقد توفّرت كل عناصر “الصدمة”.
منذ سنوات تبرز تغيّرات كبيرة في المجتمع، وتُلمَسُ بالضرورة أكثر في فئة الشباب. يراها الكلّ، وقلّ أن يُمسِك أحدُنا ( إلا خبراء متخصصين) بخيطِ تفسير، مُصطدمين بسرعة هائلة في الانتقالات، و”تهاوي” العلاقات، وتمدّد مساحات القراءة إلى أكثر من حقلٍ معرفي، في زمن الطارئ والـ”فاست فود”، مُنْسَحِقين في شبكات التواصل الاجتماعي التي تفعلُ الأفاعيل في “الإنسان” المتقلّب بين محتوى وآخر، هائماً على وجهه في الشبكة العنكبوتية ( عنكبوتية فعلا) المفتوحة المهتوكة المقصوفة باللامعنى.
وما أتعسَك يا هذا تنتقل، في دقائق، بين أكثر من حالةٍ نفسية: من حادثة سيرٍ تؤلِـمك، إلى وصلةِ رقص تُدهشك، فمحتوى ديني يُرَقِّقك، ثم مشاهد مخبولٍ يشقّ رأس ضحية يفْجَعك، فموقفٍ إنساني نبيل يُدْمِعك، لتختم بصاروخ يحوّل طفلة إلى أشلاء في غزة. وما قول علماء النفس في هذا؟ وهل يتحمّل الإنسان كل هذا؟.
ينحشرُ عشرات الآلاف من شبابنا في حفلة طوطو ضمن حالة تمرّد تصرخُ في وجه كل معنى، وحتى اللامعنى. وعجبي أن يحتفيَ سطحيون مشغولون بـ”الكيدِ والتناطحِ” بكل تلك الحشود يعتبرونها عنوانَ “اختيار مجتمعي كاسح”، ولا يرون كل ذلك الغضبِ المكتوم/ المتفّجر، فيكونون كالعميان الذين أُدخِلوا غرفة وطُلب منهم أن يكتشفوا ما هو الفيل، وكلمّا أمسكَ أحدهم عضواً من أعضاء الفيل أطلق عليه اسما ممّا يعرف، دون أن يهتدوا إلى حقيقة الفيل الكُلِيّة، وقد أصاب كل واحد منهم جزءاً.
شبابٌ يُقبِلون على طوطو وآخرين ممن يشبهونه لأنهم يتحدثون باسمهم في مواجهة المؤسسة، وكل سلطة. ولا ينفصل هذا عن وعيٍ بثقل تحلُّلٍ على صعيد الهوية، ومشاكل اجتماعية، وإحباطات و”هزائم” تبحث عن مشترك لمعنى التمرّد والرفض. نتحدث هنا عن “هويّة جاهزة” لفئة من الشباب، تشبه تماما ألتراس الكرة، في غياب (أو تغييب) أوْعِية استيعاب أخرى.
لن يكون مفيداً، في اعتقادي، إدانة طوطو أو جمهوره. كل الإفادة في أن نمسك خيط فَهْمٍ. وأوّلُ القول: هؤلاء نتيجة، وليسوا سببا. على هذا الأساس، من يستعجل الإدانة يكون كمن يطلق النار على رجله.
تنظر في كل ذلك الانصهار للأجساد وذوبان الأصوات و”الاندماج العاطفي” ولا تراهُ إلا نوعا من الانتقال من الحالة الفردية للغضب والإحباط إلى وضعية التعبير الجماعيٍ والتمرّد اللحظيٍّ، المتحكّم فيه (بمنطق السلطة)، والذي يخدم هدف التفريغ. بمعنى من المعاني نستحضر مفهوم “الهيجان الجماعي” كما عند إميل دوركايم، لتقريب صورة آلاف الشباب يردّدون الكلمات نفسها معا، ويتحركون على الإيقاع نفسه، في لحظة تغييبِ الفرد للانصهار في فعلٍ جماعي، يعزز رابطة بين أفراد “ثقافة فرعية”. الغناء الجماعي الأقرب للصراخ، بكل ذلك “العنف” في التعبير، يجعل المعنيين يتقاسمون هموماً يُخبرهم الحشدُ أنها مشتركةٌ و”مبرَّرة”، ليشعر كل واحدٍ بمعنى “أنكَ لستَ وحدك”.
السلطة تدركُ ضرورةَ احتواء هذا الصوتِ التعبيري لا إقصاءه، عبر إتاحة الفرصة له في أكبر مهرجان غنائي، والبرامج التلفزية، وتسخير النقل المباشر إلى كل بيتٍ، وإتاحة التواصل الإعلامي لرواده بكل تلك الكثافة. ومن يتصوّر طوطو كلَّ القصة، يبدو أنّه لم يستمع لآخرين “أكثر واقعية”. طوطو ودون البيغ ومسلم هم الحالة “الكيوت” في هذا التعبير الغنائي.
حفل طوطو في موازين وغيره نموذجٌ لكسرٍ مقصود وواعٍ لـ”طابوهات” من خلال البث التلفزي المباشر، وأيضا مناسبةٌ لتفجير مشاعر غضبٍ مكبوت، عبر توفير “قناة آمنة وشرعية” لشباب للتعبير الجماعي، قبل أن يتفرّق الحشد ويعود إلى حالة التشظي الفردي “بهدوء” وأكثر انضباطاً.
تلمسُ تقبُّلاً (براغماتياً) من السلطة السياسية للغة “العنيفة” في هذا النوع من الغناء، لأنها تدرك أن أصولَ الرّاب في تُربتها المُؤَسِّسة رفضٌ لـ”الثقافة السائدة”، ومحاولةُ انقلابٍ على قواعد المجتمع، وخطابٌ ضد الفساد والبطالة والتهميش. والاحتواءُ تكتيك لإبقاء هذا التعبير الغنائي تحت العينِ وتليينه، وتمكينه مادام يخدم تكتيك التفريغ. ودوماً كان التسليع (عبر المهرجانات المرعية من السلطة مثلا) عدّواً لدودا للراب، لأنه يُسقط فنانيه في تناقض بين موقعيْ الرفضِ للسلطة، وضرورة إيجاد مساحة تعايشٍ معها. ونتذكّر أغنية “المتنبّي” لـديزي دروس رداً على دون البيغ، حين قال: (.. تْحنى على لِيدْ وباسها.. وموازين ف الشاشة، مني تلوح تْصاروك، متنساش تْ هاشتاغي عَاشَ.. عَلَقْتي وِسام ما بقيتي تا تْرابي تا تْرَاكْ). هنا يُعَيِّر المغني “زميله” بعلاقة (لا طبيعية وغير سويّة من منظوره) مع “السلطة”. وحتى الوِسام يصير “سُبّة”، ويكون الثمنُ مقابله (عاشَ). و”عاشَ” هي النقيض لروح الرّاب.
التمرد هو لغة الراب، التي تُطرح “بديلا” للتعبير المهذّب، ولا تنشغل باختيار اللّفظ “الأصلح والأليق”، بما هي “ثقافة مضادة”. لذلك، تباغَتَ الناس في بيوتهم بصوت المغني ومعه عشرات الآلاف من الشباب يصرخون (قودتوها قودتوها) عبر التلفاز العمومي. الكلام المبهم والمُدْغَم، والتعبير الصادم الكاسر لكل حاجزٍ وخطّ، والإيقاع السريع، من آليات التفريغ الجماعي. وعلى صعيد الوظيفةِ، لا يمكن فصله عن “جَدْبة صوفية” حيث يُردِّد “فقراء الزاوية” (هو هو هو) ضمن انصهارٍ روحي جماعي يروم “التطهير للتنوير”، دون “تحرير”.
في زمن انطماس الهوياتِ، وقد تحوّل العالم “قريةً صغيرة” (على ما قالوا)، وفي غيابِ مشاريع مجتمعية في بلدانٍ التيه والبطالة والانسحاق، والخوف من المستقبل الذي يمْحَق شبيبةً مثقلة بالضياعِ، يمثل طوطو وأمثال نافذةً إلى تشكيل “هويّة”، لكنها “ثانوية وعابرة”، تجتمعُ حول فكرة الاحتجاج، وعكسِ صدَمات الواقع على المجتمع والسلطة، ومرّات بالكلام “الساقط” بميزان “الأخلاق”. وإنْ كان لا بدّ، ولطمْأنَة “المفزوعين” من هذا النوع من التعبير، تُبَيّن دراساتٌ أن “هذا الانتماء” يبقى بالنسبة إلى أغلب هؤلاء الشباب “انتماءً عابرا” مرتبطا بفترة عمرية، يُعتَبَرُ فيه اللباس والحركات والإيماءات، وتشكيل الجسد عموما، واللغة، أداةَ مواجهةٍ وتمرّد ورفضٍ لـ”الانضباط”.
طوطو، مثلا، في نظر جمهوره يتجاوز مستوى مغني الراب إلى “بطل ثقافي” يقوم بوظيفة “رواية سيرة” من يردّدون أغانيه. يَصْدِمُ بـ”واقعيته” وهو ينقل لغة الشارع إلى الفن. وهذا الاستعداد لتجاوز كل “خطّ أحمر” هو ما يكرّس صورة “البطولة” في أنظار الجمهور المفتقر للنموذج في مجتمع يتحوّل بسرعة، المُفتقِر باستمرار للقيمة. لهذا، عندما هاجم بنكيران طوطو لم يُضعفه الهجوم، بل استعمله لتأكيد “صحّة الرسالة” من منظور الرّابور، من خلال مواجهة جرّيئة لـ”الذعر الأخلاقي”، وفق مفهوم ستانلي كوهين، عبر تحويل سُبّة (صلكوط/salgot) إلى علامة، ممّا يزيد من جاذبية (البطل) باعتباره أداة تمرّد، و”ثقافة مضادة” ترفض الانصياع. المواجهةُ، ثم عَكْسُها إلى رصيدٍ، يمنح شعورا بالتميّز عن عالم “الكبار”. وهذا لربما ما لم يستوعبه بنكيران، حين هاجم بـ”لغة الشارع” منغمساً في ثقافة الشارع.
طوطو حالة تعبير شديدة “القذارة”، حسيّاً ومعنوياً، من منظور المؤسّسة. وهو حالة “شذوذ” يشعر جزءٌ من المجتمع الشاب بالحاجة إليها لسبّ السلطة والمجتمع والذات، والقِيم. والمعيار، بفهم هؤلاء، شديد البساطة: (كلما كان الفنان أكثر واقعيةً ومنغمساً في الشارع، بكل انفلاتاته وعاهاته، وكانت لغته وقحة وصادقة، اكتسب مصداقيةً أكبر).
بهذا، حفلة طوطو وغيره تتجاوز الاختيار الموسيقي إلى اعتبار هذا النوع من التعبير والخطاب “نافذة على ديناميات اجتماعية وثقافية” تتشكّل وتتغيّر باستمرار، وتحولات على المستوى القيمي، وإن كانت “عابرة” ولا تشكّل وحدها الهوية الفردية والجماعية، فإنها تترك آثاراً ممتدةً، تتجاوَرُ وتتصارع مع ديناميات أخرى في المجتمع، ضمن فسيفساء متفاعل. بهذا الفهم، يمكن قراءة سلوك السلطة الذي ينحو منحى “الاحتفاء” بهذا التعبير الشبابي، ضمن وعيٍ بالتحولات الجارية، دون أن تتوقّف لحظة لطرح سؤال “الكُلْفة” المؤجّل.
قصارى القول
وأنا أهمّ بختم المقالِ، تذكّرت لقاء تواصلياً لجماعة العدل والإحسان الإسلامية، أدّى فيه شبابٌ وصلة أغاني راب. تدركُ سريعاً أن استيعاب اهتمام الشباب ضرورةٌ حتى بين التعبيرات المحافِظة في المجتمع، وأن الزمنَ لا ينتظر أحداً. المجتمع السويّ يدبّر تناقضاته تحت سقف الوطن، ويصونُ الحق في اختلاف الأذواق. ما يعتمل في المجتمع يحتاج قدراً كبيرا من الهدوء لفهمه. ورغم هذا القول، لا أقول بتنزيه الثقافة وكل تعبيراتها، والغناء من جملتها، من كونها مساحةَ صراعٍ. السياسة لا تجلسُ بعيداً. في البالٍ أيضاً الظاهرة الغيوانية وتلك القصص المرويّة عن علاقة ( غير طيّبة) بالسلطة، وقد كانت في وقتها عنوانَ تمرّد ورفض، وعبّرت عن شبيبتها في حينه. فقط اليوم، السلطةُ تُجلِسُ بعض الرّاب في حِجْرِها، وتُطعِمه.