story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

سجن المستقبل

ص ص

حين يُحكم على صحافي بالسجن سنة ونصف وغرامة خرافية قدرها 150 مليون سنتيم، لفائدة وزير، فهذه ليست مجرد واقعة قضائية عابرة، بل إعلان صريح ومباشر عن أن الحق في التعبير ما زال امتيازا نمنحه لمن نشاء، وننزعه ممّن نشاء.

الحكم على الزميل حميد المهداوي ليس مجرّد قضية محاكمة رأي أو اجتهاد أو حتى اختلاف حول أسلوب صحافي، ولا قضية قذف أو سب، وليست يقينا قضية دفاع عن الشرف أو رد الاعتبار.

إنها، بكل بساطة ووضوح، مرآة تعكس الحالة العامة للحرية في المغرب، وتكشف حجم الهوة المتسعة بين خطاب الدولة عن الانتقال الديمقراطي، وبين الممارسة التي تعيدنا كل مرة إلى قفص المنع والتكميم والتأديب.

إن أخطر ما في مثل هذه القضايا ليس الإساءة لصورة المغرب في الخارج، كما يردّد البعض ببساطة مفرطة، بل في الخراب الذي تزرعه في النفوس، وفي ذلك الشعور المشؤوم الذي ينتاب المواطنين بأن العدل غير متحقق، وأن الحرية استثناء، وأن المساواة حبر على ورق.

والحقيقة التي لم تعد تحتاج إلى كثير اجتهاد، هي أن الخطر على المغرب لا يأتي مما يُقال عنه في الخارج.

لن تنهار الأوطان بسبب تقارير المنظمات الحقوقية، ولا بسبب عناوين الصحافة الدولية. الأوطان تنهار، وتتفكك، وتتآكل، عندما يفقد أبناؤها الثقة في أن هذا المكان يستحق أن يُسمّى وطنا؛ عندما يصبح القانون أداة انتقام لا ميزان عدالة؛ عندما تتحول الكلمة إلى تهمة، والرأي إلى عبء قد يقودك إلى الإفلاس أو السجن أو النفي أو الموت البطيء.

إن المجتمعات لا تبنى على الصمت. ولا تستقيم على الخوف. وحين يفقد الناس الإيمان بأنهم متساوون أمام القانون، وأنهم شركاء في صناعة حاضرهم ومستقبلهم، يتحول الوطن إلى مجرد رقعة جغرافية بلا روح، وبلا حلم، وبلا مشروع.

ليس تفصيلا عابرا أن يصدر هذا الحكم ضد الصحافي حميد المهداوي في بداية الأسبوع نفسه الذي تستعد فيه الحكومة لعرض مشاريع قوانين جديدة تتعلق بالصحافة والنشر.

نعم، في اللحظة نفسها التي يُفترض أن تُفتح فيها صفحة جديدة مع الإعلام، وأن يناقش ممثلو الأمة سُبل تنظيم المهنة وتحصينها، تصدر رسالة مزلزلة إلى الجميع: الكلمة الحرة ليست محمية، والقانون، حين يكون الأمر متعلقا بحرية التعبير، قد يتحوّل إلى سوط يُشهر في وجه من يجرؤ على رفع صوته خارج الجوقة.

لم يعد الأمر يتعلق بما قاله أو لم يقله حميد المهداوي. لنفترض، فقط من باب الجدل، أن كل كلمة نطق بها خاطئة، وأن كل اتهام ساقه مجانب للصواب، فهل الرد على الكلام يكون بالسجن والغرامات الخارقة؟

أي منطق هذا الذي يدّعي حماية الشرف والكرامة بوسائل لا تنتج سوى الإذلال والقهر والسخط العام؟

لقد عرف المغرب ملوكًا ورؤساء ووزراء ومسؤولين سامين تعرضوا لمقالات جارحة، وانتقادات قاسية، وحملات وصلت حدّ الإهانة، ومع ذلك كان الرد، في كثير من اللحظات الكبرى، أكثر نضجا من الذين يملكون اليوم سلطة القرار.

من منا لا يتذكر كيف ردّ الملك الحسن الثاني على صحيفة “لوموند” الفرنسية حين طالبها بفرنك فرنسي واحد تعويضا عما اعتبره إساءة؟

ومن لا يتذكر كيف تصرف الملك محمد السادس حين أخطأت صحيفة مغزبيج في حقّه، أو عندما حُكم على صحفيين فرنسيين بابتزازه بسنة موقوفة التنفيذ وغرامة لا تتجاوز عشرة آلاف يورو، رغم أن الأمر يتعلق برأس الدولة، وبكرامة ملك يُفترض أن تكون في قمة هرم الاعتبار؟

إن المجتمعات لا تُقاس بحجم الشعارات التي ترفعها، بل تُقاس بمدى قدرتها على إدارة التوتر بين السلطة والحرية. وهذه القضايا لا تفضح فقط هشاشة الحريات في المغرب، بل تكشف عن أزمة أخلاقية عميقة لدى من يعتبرون أنفسهم نخبة الدولة.

من يملك أو يجاور سلطة التشريع وسلطة الادعاء وسلطة التتبع وسلطة إصدار الأحكام، لا يليق به أن يستخدم كل ذلك في تصفية خصومة مع صحافي مهما كان صوته حادا أو لغته جارحة.

إن الصحافة ليست ترفا، وليست قطاعا يمكن التعامل معه بمنطق الحظر والمنع والانتقاء، بل هي أحد الأوعية التي تحفظ معنى العيش المشترك، وهي المساحة التي تختبر فيها المجتمعات نضجها، وتُظهر قدرتها على التعايش مع التعدد، والقبول بالاختلاف، وتحمل الألم الناتج عن النقد والجرأة.

حين تحكم الدولة على صوت صحافي مثل المهداوي، فإنها في الحقيقة تحكم على المجتمع كله بالصمت. وحين ترفع الغرامات إلى مستويات عبثية لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي للصحافيين ومقاولاتهم، فإنها لا تعاقب شخصا، بل توجه رسالة بالغة الوضوح: إن الكلام الحر مكلف جدا، وإن التعبير عن الرأي يمكن أن يؤدي بك إلى الإفلاس، أو السجن، أو كليهما معا.

إن من يستهدفون المهداوي اليوم لا يعاقبونه وحده، بل يعاقبوننا جميعا. يعاقبون الفكرة نفسها، يعاقبون الوهم بأن هناك مساحة للكلمة الحرة، يعاقبون طموح جيل كامل في أن يكون له رأي، وأن يقول لا حين يرى أن لا هي الموقف الأخلاقي الوحيد الممكن.

ليعلم من يحتاج إلى تذكير، أن المجتمعات التي تخنق الكلمة الحرة، لا تُنتج سوى الرداءة. وحين تُسدّ المنافذ أمام النقاش، تفتح الأبواب أمام التطرف، واليأس، والعنف، والكراهية.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح على كل من يملك ذرة عقل وذرة ضمير هو التالي: أي مجتمع نبنيه حين نُعلّم أبناءنا أن العدل انتقائي، وأن الحرية مقيدة، وأن الكلمة قد تكلّفك حريتك، وأن الرأي قد يجعلك هدفا للسلطة لا محاورا لها؟

في النهاية، قضية المهداوي ليست مسألة شخصية بينه وبين وزير، وليست مسألة مهنية بينه وبين لجنة مؤقتة لتدبير قطاع مريض.

القضية ببساطة هي سؤال وجود: هل نريد أن نكون مجتمعا حرا، أم مجرد قطيع يُساق بالصمت والخوف؟

كل إدانة لصحافي أو صاحب رأي هي إدانة لنا جميعا.

وكل حكم بالسجن على الكلمة، هو حكم بالسجن على المستقبل.