story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل يعزز التطبيع من السلطوية؟

ص ص

ماذا يعني الهجوم على بنكيران بسبب موقفه الرافض لمشاركة جنود صهاينة في مناورات الأسد الإفريقي؟

أن تشن جهات صحفية وسياسية حملة إعلامية هوجاء ضد أمين عام حزب سياسي معارض، بسبب تعبيره عن موقف سياسي يخصه، كيفما كان مضمونه، شيء يدعو إلى الدهشة والتساؤل حقا.

كان منطقيا أن يعبر خصوم بنكيران عن رأي بديل، أو حتى عن موقف مضاد، لكن الأمر تجاوز كل ذلك، نحو التسفيه والسب والشتم، بل تمادى بعضهم أكثر فلجأ إلى التخوين والتهديد.

لم يعد الأمر يتعلق بنقاش عمومي إذن، بما هو تحكيم للعقل الجماعي بحثا عن المصلحة المعتبرة في قضية مثيرة للجدل والخلاف بطبيعتها، وتتعلق تحديدا بالجدوى من الاستمرار في التطبيع بعد السابع من أكتوبر 2023، بالنظر إلى السياق الجديد، حيث يمارس الكيان المجرم الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني.

بل هي محاولة من قبل تلك الجهات فرض رواية وحيدة لمسار التطبيع المغربي مع إسرائيل، تزعم أنها الرواية الرسمية، وتحاول فرضها من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بصرف النظر عن قدرتها على الإقناع.

تتوهم تلك الجهات أن التطبيع “مصلحة وطنية” فوق كل اعتبار (تازة قبل غزة)، بل فرصة من أجل إنهاء ملف النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، والدليل على ذلك، حسب رأيها، مجمل “التطورات الإيجابية” التي عرفها ملف الصحراء، منذ التوقيع على الاتفاق الثلاثي في ديسمبر 2020 بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، بما في ذلك اعتراف ثلاثة أعضاء في مجلس الأمن بالسيادة المغربية على الصحراء أو إعلان دعمها لمخطط الحكم الذاتي أساسا للتفاوض.

تحتج تلك الجهات بقضية حيوية للدولة والشعب المغربيين، أي قضية الصحراء، لكي تبرر هجومها على بنكيران ومناهضي التطبيع عموما، فتمنح لنفسها، وحدها دون بقية الفاعلين، الحق في تحديد ما يعتبر مصلحة وطنية وما يعتبر غير ذلك، وبصيغ تبدو معها متطرفة في التعبير عن مواقفها، وفي التهجم على خصومها. وقد تتمادى في نهجها، فتتجرأ على الدولة نفسها، لتحدد لها من يعتبر خصما لها ومن ليس كذلك.

السؤال المطروح: هل تملك تلك الجهات ما يكفي من الأدلة واليقين الراسخ بأن التطبيع مع إسرائيل سيفضي حتما نحو حل النزاع الإقليمي حول الصحراء؟

لم تقدم شيئا من ذلك، سوى الكلام المفتقر للحجج. علما أن الدولة نفسها لم تجرؤ على مثل هذا الادعاء.

فالموقف الرسمي يرجّح بأن يؤدي التطبيع، في أقصى مكاسبه، إلى خلخلة في موازين القوى لصالح المغرب على المستوى الإقليمي، وقد يعزز من موقفه التفاوضي إزاء الجزائر، وقد يحقق بعض المكاسب التنموية والاقتصادية.

لكن هل يكفي كل ذلك لحسم النزاع مع الجزائر؟ من الصعب على أي جهة الجزم بجواب محدد، فالصراع في أساسه يتعلق بنمط معين لتوازن القوى في شمال افريقيا، أقامته القوى الاستعمارية السابقة، وقد يحتاج تغييره، بدون موافقة الجزائر، إلى حرب مدمرة في المنطقة. وهو، للإشارة، احتمال تعزز بقوة بعد التطبيع مع الكيان المجرم، ينبغي الانتباه إليه والاحتراز منه.

وبعبارة أخرى، هل التطبيع مع إسرائيل يؤدي إلى السلام في المنطقة؟ لا شيء من ذلك. ففي دراسة أنجزتها الباحثة دانا الكرد بعنوان “مفارقة السلام: أثر التطبيع مع إسرائيل على العالم العربي”، نشرتها في فصلية (الدراسات العالمية Global Studies) في يوليوز 2023، خلصت إلى أن اتفاقات السلام مع إسرائيل، بما في ذلك اتفاقات التطبيع، لم ترسخ السلام في المنطقة، بقدر ما أفضت إلى تعزيز السلطوية وترسيخ الممارسات الاستبدادية.

تقول الكرد إن اتفاقات التطبيع “قد تكون مفيدة، لأن البديل يعني استمرار الصراع والتكلفة البشرية للحرب”، لكن التجربة أثبتت أن تلك الاتفاقات “لا تعالج الأسباب الجذرية للصراع، بل تحافظ على ثوابت العنف الهيكلي، وفي نفس الوقت توظف من أجل تعزيز السلطوية والممارسات الاستبدادية”.

يمكن القول في ضوء خلاصات الكرد أن الأنظمة العربية التي طبّعت مع إسرائيل، حين تعجز عن إرغام هذا الكيان العنصري المجرم على الالتزام بالقانون الدولي، وبالتفاوض من أجل حل سياسي على أرضية حلّ الدولتين مثلا، فهي ترتد على شعوبها بالقمع وتكميم الأفواه المنتقدة، أي محاولة فرض رواية وحيدة لمسار التطبيع، وتضييق الخناق على وجهات النظر البديلة.
ممارسات تحققها تلك الأنظمة من خلال “تقييد الوصول إلى المعلومات، وبناء رواية رسمية وفرضها من خلال السيطرة على وسائل الإعلام، والاعتماد على الجهات الفاعلة الحليفة داخل المجتمع”.

تجد هذه الخلاصات أساسها في تجارب التطبيع السابقة، ففي حالة الأردن بعد توقيع اتفاق وادي عربة سنة 1994، أدى ذلك إلى تراجع الحريات السياسية، وإضعاف البرلمان الأردني، وتراجع الثقة في العملية السياسية، واستهداف الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، وحتى تهميش النخب الناقدة.

وخلص الملك الأردني نفسه إلى أن “السلام والديمقراطية لا يجتمعان”، وتصرف بناء على ذلك. وقد سجلت الدراسة السلوك نفسه في مصر عقب حرب أكتوبر 1973 وبدء مفاوضات اتفاق كامب ديفيد الموقعة سنة 1978، إذ قام النظام المصري حينها باعتقال الرافضين للاتفاقية، ودفع عدد كبير من الفلسطينيين إلى خارج مصر.

لم تحل اتفاقات السلام أيا من أسباب الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، لكنها يسّرت للأنظمة العربية الوصول إلى الموارد المادية والتقنية التي تجعلها أكثر قدرة على القمع والتسلط. كما لا تتردد إسرائيل في تزويد تلك الأنظمة بتقنيات قمعية متطورة، من خلال تسهيل التنسيق الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية وبيع التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، التي توظفها الأنظمة في قمع منتقديها الذين يقدمون وجهات نظر بديلة لروايتها، إما بشكل مباشر أو عبر أدواتها في الإعلام والمجتمع المدني، من أجل فرض خطاب وحيد ومهيمن.

هل سقط المغرب في الفخ نفسه؟

سيختلف الجواب حسب الموقع والمصلحة. لكن إمعان النظر في الهجوم الإعلامي والسياسي الفج على بنكيران يدفع إلى القول إن الجهات التي تقف وراء تلك الحملة قد سقطت في الفخ الصهيوني فعلا، بوعي أو بدونه. علما أن الدولة تبدي، حتى الآن، مستوى معتبرا من المرونة، فهي لم تغلق الفضاء العمومي أمام المنتقدين والمحتجين، وتصر على ربط التطبيع مع الكيان المجرم بالاتفاق المبرم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتزن كل خطوة بالنتائج المتوقعة منها. ولعله النهج الذي يحد من كلفة التطبيع حتى الآن، ربما لأن النظام في بلادنا لا يريد أن يقع في فخ الصدام مع شعبه من أجل مصالح متوهمة مع كيان إجرامي، يبيد شعبا أعزلا في غزة أمام أعين العالم أجمع، ولن يتورع عن الإيقاع بآخرين في متاهات التسلط والفوضى.