story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ترامب من الرياض.. اِدْفَعْ تَسْلَمْ!

ص ص

في قاعة أنيقة بُسط فيها السجاد الأحمر للبترودولار، وقف دونالد ترامب لا كرئيس لدولة عظمى، بل كأي تاجر بارع يلمّع بضاعته أمام زبائن يفيض جيبهم بالدولارات ويعوزهم النفوذ الدولي.

كان المشهد أقرب إلى سوق منه إلى منتدى دولي، والمضمون أقرب إلى عرض مبيعات منه إلى خطاب دبلوماسي مدروس.

ترامب لم يلق خطابا، بل فتح “كتالوغا” كما يفعل أي وكيل تجاري، فيه مزيج من البضائع والخدمات السياسية والتجارية، بما في ذلك صفقات جاهزة، وتخفيضات استثنائية، وعروضا لا يمكن تفويتها، والزبون المفضل حاضر: محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي الذي وصفه ترامب بأنه “الرجل الذي لا مثيل له”.

زوال هذا الثلاثاء 13 ماي 2025، صعد دونالد ترامب منصة منتدى الاستثمار الأميركي السعودي كسمسار مخضرم في سوق الشرق الأوسط الكبير.

وكان خطاب الرجل المتحمّس أقرب إلى مزاد صاخب منه إلى رؤية استراتيجية؛ أشبه بعرض ترويجي لبضاعة مصقولة بالدولارات منه إلى خطاب رجل دولة يستحضر التحديات الجيوسياسية ويقترح حلولا تاريخية.

ترامب، الذي لم يُخف يوما طبيعته التفاوضية، قدّم نموذجا للعلاقات الدولية حين تتحوّل من منظومة تحالفات ومصالح مشتركة، إلى علاقة زبون ومزوّد.

“أنا هنا لأنني أحب ولي العهد، ولهذا أعطيه الكثير”، قالها بنبرة لم تخلُ من المباهاة، وكأن الصداقة تُقاس بما يُضخّ من أموال، وكأن الولاء يُشترى في قاعة المؤتمرات.

استعرض ترامب أمام الحضور قائمة منتجات: أسلحة، وغواصات، وشرائح إلكترونية، واستثمارات ضخمة، وتوظيفات قياسية، واتفاقيات تجارية… وكأن المنطقة بأكملها تتحوّل إلى معرض دائم لمنتجات أمريكية بخصومات خاصة لمن يدفع أكثر.

حتى قرار ترامب المفاجئ برفع العقوبات عن سوريا لم يكن سوى جزء من هذه العقلية التجارية. إذ لم يأت ذلك نتيجة مراجعة أخلاقية أو تحول إنساني في السياسة الأميركية، بل كرغبة في فتح ورشات إعادة الإعمار أمام أدواته الاستثمارية الجديدة: منح عقود البنى التحتية والإعمار الكبرى لتركيا ودول الخليج، مقابل عائد مالي واستراتيجي من هذا وذاك.

لم يُخف ترامب أن من يدفع يبني، ومن يبني يربح، ومن يربح يرضي الرئيس التاجر.

كان حضور البعد التجاري طاغيا في كل مفصل من مفاصل خطاب الرئيس، حتى أن عبارات السلام والتعاون كانت مؤطرة بميزان الأرباح والخسائر، والأسوأ من ذلك أن الفكرة نفسها طُبِّقت حتى في تعامله مع أكثر الملفات حساسية.

لم يأت ترامب على ذكر إسرائيل صراحة، رغم الخلاف العاصف مع نتنياهو، لأن رجل الأعمال المحنّك يعرف حدود اللعبة: يمكن أن تختلف مع الزبون، وإن كانت إسرائيل أكثر من مجرّد زبون، لكن لا تنتقده علنا إذا كان يُملي شروط اللعبة من واشنطن إلى الكونغرس.

بل إن غياب اسم إسرائيل عن الخطاب لم يكن إغفالا، بل حسابا دقيقا. ترامب يعرف تماما أن لوبيات التأثير في واشنطن لا تغفر الزلات اللفظية، وأن أية إشارة سلبية تجاه تل أبيب كفيلة بإغلاق أبواب الدعم الصهيوني حتى أمام “عبقري الصفقات”.

لقد خاض الرجل مخاطرة سياسية بحجم الشرق الأوسط كله، لكنه لم يُخالف قواعد السوق: لا تُغضب الزبون، ولو كنتَ في مزاد الأصدقاء.

لم تكن رسائل ترامب موجهة فقط إلى الحاضرين في الرياض، بل كانت تبث على موجات متعددة: إلى الداخل الأميركي، ليقول إنه ما يزال الرئيس القوي الذي “يعرف كيف يعقد الصفقات”؛ وإلى القوى الغربية التي ما زالت تتردد في التخلص من إرث الليبرالية؛ وإلى الأنظمة الحليفة لأميركا، ليخبرها بصراحة منقطعة النظير: في عهد ترامب، من لا يملك المال لا يملك الصوت ولا يضمن سلامته.

بين السطور، تسرّبت رسالة مبطنة إلى حلفاء واشنطن التقليديين، الصغار منهم تحديدا: الحماية، والدعم، وحتى مجرد الالتفات، لم تعد حقوقا تُستحق، بل امتيازات تُشترى. ومن لا يستطيع الدفع، فليتنحّى جانبا.

وإذا كانت هذه هي القاعدة الجديدة، فإنها تستدعي قراءة مغربية هادئة ولكن عميقة. إذ كيف يمكن لدولة مثل المغرب، تراهن منذ عقود على علاقاتها المتميزة مع الولايات المتحدة، أن تحافظ على مكانتها في عصر يُقاس فيه الحليف بقدرته على التمويل لا بموقعه الجغرافي أو عمقه التاريخي؟

الشرق الأوسط الجديد، وفق ترامب، لا تصنعه الخرائط ولا المؤتمرات ولا تحالفات مكافحة الإرهاب. إنه سوق مفتوح للعرض والطلب، للربح والخسارة، للشراء والتفاوض، بلا قيم ولا ثوابت. ومن لا يفهم هذه اللغة، فمصيره أن يُستبدل أو يُهمّش.

ربما يكمن أحد أبلغ ما قيل في هذا الخطاب في مقطع لم يثر كثيرا من الانتباه، حين قال ترامب عن الصفقة مع الهند وباكستان: “قلت لهم، دعونا لا نتبادل الصواريخ النووية، بل البضائع الجميلة التي تصنعونها”.

عبارة تختزل فلسفة رئيس يتعامل مع الحروب كخسارة في الميزانية، والسلام كأرباح في دفتر الحسابات. إنها لحظة اختزال صارخ للعالم إلى موازنة مالية، وربما كان هذا، بكل تناقضاته، هو جوهر “الترامبية”.

والمفارقة أن هذا الخطاب، بكل ما فيه من ابتذال واستعراض، قدّم لحظة صدق نادرة: لقد هدم ترامب جدار المجاملة، وأعلن ما كانت النخبة الأميركية تُخفيه تحت عباءة الدبلوماسية: أميركا لا تُعطي، بل تبيع. لا تصادق، بل تتعاقد. لا تَدين بالولاء إلا لمن يملأ الخزائن.

وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فربما يكون السؤال الأهم اليوم: هل نحن في المغرب مستعدون لهذه القواعد الجديدة؟

هل نملك ما يكفي من أوراق القوة لنفاوض على موقعنا في الخارطة الجديدة، أم سنظل ننتظر إلى أن يُفتح مزاد جديد؟