صدمة الخطاب السياسي لدى ذ. عبد الإله بنكيران

في سياق التفاعل مع ما يجري في الساحة المغربية من تدافع حول اسناد القضية الفلسطينية ومن منصة العمال ، اختار عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية الأسبق، ان يقصف دعاة “تازة قبل غزة” بـأوصاف لها دلالتها الشعبية وحمولتها في اطار الفرز الاجتماعي لما نعتهم ب “الميكروبات” و”الحمير” ، هذا التوصيف الذي يختزل في طيه دلالة سياسية عميقة ، أثار في حينه جدلاً واسعًا، لأنه جاء في سياق جماهيري وهو الاحتفال بالعيد الأممي للشغل ومن منصة الطبقة العاملة ، ثم جاء بأسلوب صادم غير معتاد من رجل السياسة بامتياز ، في موقع مسؤولية . خاصة وأنه يتعلق بسجال قديم /جديد ، لقضية حساسة تتعلق بترتيب الأولويات بين القضايا الوطنية وقضايا الامة الاسلامية . مما جعل الكثير من المهتمين والمحللين الموضوعيين يتساءلون هل أخطأ ابن كيران ؟
أم أن خطابه يجسد دلالة مقصودة في سياق دقيق . طبعا الجواب يعتمد على الزاوية التي يُنظر منها الى ما وقع والمقاصد التي يسعى اليها المدقق في الواقعة ، بحيث يمكن تصنيف ردود الفعل الى مستويات عدة : فمن الزاوية الأخلاقية والسياسية حاول البعض اظهار ابن كيران وكأنه انزلق مشدودا بحماسة خطابية واقترف خطأ على مستوى اللغة المستخدمة في الهجوم ، واعتبر انها غير لائقة في الخطاب السياسي، خاصة عند الحديث عن مواطنين مغاربة يعبرون عن رأيهم.
مع الزعم أنه كان من الممكن توضيح موقفه بشكل عقلاني دون اللجوء إلى السب أو التحقير. مدعين أن مثل هذه التصريحات قد تؤجج التوتر بدلًا من أن تخلق نقاشًا وطنيًا ناضجًا حول ترتيب الأولويات.
لكن بعد تشريح الخلفيات التي يتسندون عليها وما تراكم عند أصحاب هذا الرأي المختلف حوله ، نجد ان منهم مخادعون ، يحاولون الاختباء وراء درع الاخلاق والقيم بالنظر الى سوابق حدتث في ساحة التداول السياسي بالمغرب ولم يشهد لهم رد فعل أو استجابة (حيوانات كعيية والطاهر بن جلون ) ، بل بعضها كان ابن كيران موضوعا لها ، وبالتالي يسقط الادعاء الاخلاقي ، بل نزعم أنه أمام ضعف حيلتهم والصدمة التي اثارها التوصيف الصادم اشتغلوا على دينامية الاخلاق كخط ناظم لردود فعلهم .
ومنهم من انخدع بموجة النقد الأخلاقي الذي انخرط فيه حتى من كان قريبا من دائرة حزب العدالة والتنمية وسعى إلى الركوب على موجة الأخلاق ، مع استثناء بعض الردود الموضوعية التي تؤمن بالانزلاق الأخلاقي فيما وقع بموضوعية دون هروب إلى هذه المنصة لتحرير عجز الرد .
وبالتالي محاولة مقاربة توصيف ابن كيران لدعاة ” تازة قبل غزة ” بالاستناد على الوازع الأخلاقي، وتصوير ابن كيران كجانح أخذته الحماسة الخطابية فاقترف الممنوع ، اصحابها لا يعرفون قواعد التفكيرالسياسي عند الرجل ، وغير ملمين بهندسة وانتقاء مفردات ومضامين الخطاب السياسي لديه ، فرغم ما يبدو عليه ابن كيران من عفوية وتلقائية في القول . الا انه ينتقي مفرداته بدقة و لكل سياق عنده معجمه الخاص .
وعليه نقول أن ابن كيران حقق ما أراد وما فكر فيه ، وتم قصف الدوائر التي يريد بنجاح وفي الزمن المناسب ، ولم يعتل منصة البيضاء سدى .
نقول ذلك ليس لأننا نشاطره ما قال أو منبهرين به ، بل الأمر يتجاوز الانفعال البسيط ، لانه لا يتعلق بالرفض أو القبول بل مرتبط بتصريح الخطاب السياسي واعمال منهجية تحليلية في التعاطي مع ملفوظه السياسي غير الاعتباطي . لأنه من الزاوية المبدئية ، وباستحضار العقيدة السياسية لابن كيران ، فإن هذا الاخير سعى في انسجام تام مع ما يؤمن به ، إلى تأكيد مكانة القضية الفلسطينية في وجدان المغاربة، وأن دعمها لا يعني تجاهل القضايا المحلية والوطنية ، ولعله يشير الى من يحاول ان يجعل القضيتين (الوطنية والفلسطينية ) في تناقض على مستوى ترتيب الاولويات ، وهو يحرر الخطاب السياسي من الذين يجعلون المغرب وقضاياه مادة للمزايدة السياسية .
صحيح أن أسلوب التعبير طغى على الفكرة، وذلك مقصود ،لأن هناك من استوعب الرسالة وحاول التقليل منها من خلال توجيه وتحريف النقاش . حتى يتحكم في منظومة التفسير ويوجه الرأي العام . ويعطي الانطباع أن ” التصريح ” استهزاء بمن يطالب بحل مشكلات داخلية أولاً، رغم أن ذلك مطلب مشروع وابن كيران نفسه عبر عن ذلك ذات مرة و انتقد لأجل ذلك ، لكنه في حالة قضية فلسطين ، مرجعية القراءة والتأويل تختلف ، ويحملها سياق تراكمت خلاله أراء ومقولات غريبة عن إجماع المغاربة حول القضية الفلسطينية شعبا ومؤسسات .
لذا نقول لأصحاب النقد الاخلاقي ان ابن كيران له القدرة على التعبير عن فكرته بقوة ووضوح،وبأسلوب مغاير (يليق بمكانته ومقام النقاش العمومي كما يدعون ) . لكنه يعي ان الإشكالية ليست في اخفاقه في انتقاء طبيعة الوسيلة والاداة ، بل في جوهر ومضمون الخطاب التي ارتضاه للتعبير عنه في سياق موسوم بارتدادات 7اكتوبر وبروز اهواء صهيونية تتسربل كل مرة برداء معين ، وهو ما جعل البعض يثير لغة الموقف المعبر عنه عوض مضمونه ، لحجب الفكرة الجوهر وإثارة ردود فعل قوية تخفي حالة الفرز التي سعى اليها ابن كيران على مستوى الانتصار للقضية الفلسطينية .
لذا اعتقد أنه من الممكن جدًا أن بنكيران تعمد استخدام هذه اللغة الصادمة لإحداث رجّة نفسية وذهنية في صفوف من سماهم بـ”دعاة تازة قبل غزة”. هذا الأسلوب ليس غريبًا عنه، فقد عُرف بخطابه الشعبوي أحيانًا(الخطاب المباشر الذي ينهل من المعجم الشعبي ) ، الذي يمزج بين الدين، والسياسة، والتهكم، والإثارة وغيرها من القفشات المقصودة في سياقها .
وبالتالي من هذا المنظور، يمكن القول أن: بنكيران أراد إحداث صدمة لإجبار خصومه أو المختلفين معه على إعادة التفكير في أولوياتهم، وزعزعة تموقعاتهم تجاه فلسطين ، وربما أيضًا لإحراجهم أمام الرأي العام، بإظهارهم بمظهر الأنانيين أو اللامبالين بالقضية الفلسطينية وهو لم يعمم بل استهدف دائرة تعرفه ويعرفها .
فالسياق والتحولات التي تشهدها القضية الفلسطينية ، اقتضت من ابن كيران استعمال كلمات قاسية لأنه يعلم أن الصدمة ستُتداول بقوة، وستخلق تفاعلًا واسعًا (الطندوس السياسي ) ، وهو أسلوب يعتمد عليه كثير من الزعماء السياسيين للهيمنة على الفضاء الإعلامي والنقاش السياسي وتوجيهه وفرض أولوياته .
إن معرفتي بالقدرات الخطابية للرجل ، ترجح لدي قناعة مؤداها أنه تعمد “الصدمة اللفظية” معتقدا أنها ستدفع الناس إلى الانتباه إلى حجم ما يراه هو خطأً أخلاقيا أو سياسيًا في طرح “تازة قبل غزة” في سياق المعاناة اللانسانية التي يشهدها الفلسطيني .
لكن ردود الفعل الغاضبة حاولت قلب الطاولة عليه باسم الاخلاق واستخدام الألفاظ المهينة ، لتحصيل نتائج عكسية من حيث النفور من الخطاب ، وتشتيت النقاش عن الفكرة الجوهر (فلسطين والتطورات الراهنة ) ، نحو الجدل الأخلاقي حول اللغة والمفردات المستعملة ، والدفع بخسارة التعاطف من فئات كانت محايدة أو متفهمة. واستطيع أن أقول أن بعضا من ذلك تحقق بالفعل وفي مستويات متعددة لكنه محدود.
ما سبق يثير تساؤلات عدة ، هل فعلا قصد ابن كيران الصدمة ؟ . و هل نجحت الصدمة في تغيير وعي المخاطبين، أم فقط أثارت استفزازهم؟ . ارى من وجهة نظري أن تقييم أثر التصريح الان فيه نوع من التسرع ، لكن من الناحية التواصلية، ما فعله بنكيران يمكن اعتباره ضربة محسوبة وواعية ، وبالتالي لم يكن ما تفوه به ابن كيران مجرد رد فعل عاطفي، وحماسة لحظية، بل أسلوب مقصود لكسب المبادرة في النقاش العمومي لصالح القضية الفلسطينية، والتمكين لفرز المواقف حولها.
ومؤشرنا في ذلك هو حجم الجدل، والمقالات، والتصريحات التي تفاعلت مع كلامه، والتي ربما جعلت الناس يعيدون التفكير، حتى وإن لم يتفقوا معه فيما ترمز إليه ثنائية تازة غزة، أو الصيغة التي تم بها التعبير عن مؤيديها .
وبالرجوع الى علم الخطاب السياسي ، فما ادعيناه تحليليا ، يصطلح عليه بـ”الخطاب الصدامي المنتج”، حيث لا يُراد منه الإقناع فقط أو دغدغة مشاعر الاطراف ، بل مقصده السياسي فرض الأجندة ، أي جعل الجميع يتحدث في الموضوع من زاويته ويجدد قراءته له . وكذلك فرض حالة الاستقطاب حوله ، من خلال فرز المواقف بوضوح بين من “مع” ومن”ضد”. و لا ننسى هنا أن مثل هذه التصريحات يتعمدها الزعماء لتقوية القاعدة الشعبية الموالية لموضوع ما ، واظهار الزعيم السياسي بمظهر القوي الذي لا يراوغ ولعلها صفة لاصقة بابن كيران .
ولعله كذلك ، بذكائه الخطابي، كان يعلم أن النقاش حول “تازة قبل غزة” يحمل في داخله توترًا وحرجا وجدانيًا عميقًا في المجتمع المغربي، فاستثمره بطريقة تثير الانتباه وتفرض موقفه كمرجعية.
صحيح أن هذا الأسلوب لا يمكن أن يُستخدم دائمًا، وأن له حدودًا ينبغي عدم تجاوزها.
لكن من الناحية التواصلية، ما فعله بنكيران يمكن اعتباره ضربة محسوبة وليست انزياحا لفظيا أو استدعاء لمعجم سوقي ، لأنه ببساطة لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل أسلوب مقصود لكسب المبادرة في النقاش العمومي لصالح قضية فلسطين وتقويض سردية تازة قبل غزة باعتبارها سردية مزيفةةفي حقل التداول المغربي . والدليل كما قلت: حجم الجدل، والمقالات، والتصريحات التي تفاعلت مع كلامه، والتي ربما جعلت الناس يعيدون التفكير، حتى وإن لم يتفقوا معه في صيغة التعبير.
ويمكن تصنيف خطاب ابن كيران على مستوى علم الخطاب السياسي ، بما بات يعرف بـ”الخطاب الصدامي المنتج”، حيث لا يُراد منه الإقناع فقط، أو التواصل من أجل بسط موقف أو وجهة نظر مقابلة، بل هدفه (الخطاب) فرض الأجندة وجعل الجميع يتحدث في الموضوع من زاويته ، وانجاز حالة من الاستقطاب ، تؤدي فرز المواقف بوضوح بين “مع” و”ضد”. ثم لا نستبعد مساهمة هذا الخطاب الصدامي في تقوية القاعدة الشعبية لصالح الاطروحة المضادة لمقولة تازة قبلةغزة ، كما تسهم في إظهار الزعيم بمظهر القوي الذي لا يراوغ. ولعل بنكيران، بذكائه الخطابي وحنكته السياسية ، كان يعلم أن النقاش حول “تازة قبل غزة” يحمل في داخله توترًا وجدانيًا عميقًا في المجتمع المغربي لا يجد قنوات لتصريفه بالقوة اللازمة ، فاستثمره بطريقة تثير الانتباه وتفرض موقفه كمرجعية.
فالسياسي حين يشعر أن حججه وخطابه الناعم قد لا تكون له القوة اللازمة للتعبير بشكل شاف كاف ، يلجأ لفرض تصوره أحيانًا إلى ما يسمى بـ”الخطاب الصادم” Shock Rhetoric. وهذا الخطاب لا يسعى فقط إلى الإقناع، بل يتجاوزه الى هدم اطروحة الخصم وزعزعة يقينه ونو ثمة اعادة بناء القضية والموقف في الرأي العام . فما فعله ابن كيران هو نقله النقاش من المستوى العقلاني البارد إلى المستوى الانفعالي الحاد. الشيء الذي خلق لحظة استقطاب جماهيري انعشت القاعدة الشعبية له ، ومارست ضغطا على الخصوم.
بخصوص حالة بنكيران، وحديثه عن “الميكروبات” و”الحمير” ، فما عرف عن الرجل من ذماء خطابي ، فإني اعتبر ما حصل خرقًا مقصودًا لأعراف الخطاب السياسي التقليدي المستكين نحو دينانية مغايرة تتبنى سردية متناهية مع المنطق المنحاز للكيان الصهيوني، مما جعل تصريحه لحظة فارقة وجذابة إعلاميًا.
إن منطق “ تازة قبل غزة” يحمل في الوعي المغربي وفي طياته نقاشًا قديمًا حول أولويات النضال ، هل نبدأ بحل مشاكلنا الداخلية (الفقر، الصحة، التعليم…) أم نعبّر أولًا عن انتمائنا الأممي والديني والسياسي بالقضية الفلسطينية؟ . هناك من يعتبر أن المطالبة بـ”تازة قبل غزة” ليست إنكارًا لفلسطين، بل دفاعًا عن ترتيب عقلاني للأولويات. وهذا لا يجحده احد وابن كيران، كسياسي بخلفية إسلامية، يرى في القضية الفلسطينية مرآة للكرامة الوطنية والهوية الدينية، وبالتالي فهي أولوية وجدانية لا تقبل التهميش.
فخطابه الصادم هنا ليس فقط ردة فعل سياسية، والا نطرح السؤال لماذا لم يطرح ذلك من قبل . ما قام به عبد الإله ابن كيران هو محاولة لضبط بوصلة الانتماء الجمعي لدى الشباب المغربي، الذي بدأت تستهلكه القضايا المحلية والضغوط المعيشية. لذلك اختار استراتيجية الأثر الطويل مقابل الأثر القصير واللحظي ، كلامه أحدث جدلًا واسعًا، لكن يجدر أن نسأل هل أحدث تحولًا فعليًا في الوعي؟ أم أنه فقط أثار زوبعة إعلامية سرعان ما خمدت؟ الخطاب الصادم قد ينجح في المدى القصير، لكنه قد يخسر في المدى البعيد إن لم يُدعّم بمنطق تواصلي مستدام.
والسبب أن الناس، حتى لو صدموا، قد ينفرون من الخطاب المهين ويبحثون عن بدائل عقلانية وأكثر احترامًا. وهو ما لم تنتبه له زمرة تازة قبل غزة ، فالحديد الذي تم واتساع دائرة النقاش والسجال ، خدمت استراتيجية الرجل والبعد الرمزي الذي وضعه للشتيمة السياسية ، فحين يصف سياسي فئة من الناس بـ”الميكروبات” و”الحمير”، فهو لا يصف فقط الأفراد، ومنتهى فعله ليس هو التنكيل بالاشخاص ، بل شيطنة الفكرة التي يحملونها وتقويضها وبروزتها وجعلها على محط النقاش، وهو ما لم تنتبه أو تفطن إليه زمرة تازة قبل غزة ،اذ تحويلها للاختلاف في الرأي رغم صداميته إلى مسألة أخلاقية أو مرضية، ساهمت في التمكين لاطروحته وضيقت بذلك مساحة الحوار المشترك الذي يضمن لها نيل تعاطف البعض .
لكن هذه الزمرة لم تنهزم في التفاعل مع الخطاب في المقابل، بل من منظور الصراع الرمزي، ساهمت في خدمة مقصده الخطابي المتنثل في تحييد الخصم عبر تحقير رمزيته أمام الجمهور. وعموما فابن كيران استعمل خطابًا صادمًا بذكاء تكتيكي. كان الهدف منه ليس الرد على خصومه أو من يعتقد انهم خصوم القضية الفلسطينية ، بل فرض تأطيرا جديدا للنقاش وحقق انتشارًا واسعًا في ذلك ، رغم أنه غامر برصيد الاحترام السياسي لدى فئات محايدة قد لا تتعمق في فهم مقاصد الرجل الاستراتيجية .
وختاما فإن هذا الأسلوب الخطابي ليس ميزة خاصة بابن كيران ، بل هناك نماذج من زعماء سياسيين آخرين (عرب أو عالميين) استخدموا نفس التكتيك؟
من قبيل دونالد ترامب الذي يعتمد ذات الأسلوب المباشر، الهجومي، المليء بالسخرية والشتائم (“losers”، “crazy”، …). الذي يهدف من خلاله الى زعزعة النخب، وخلق حالة استقطاب حاد بين “أميركا الحقيقية” و”أميركا النخبوية”. ونتيجة لذلك نجح ترامب في تحويل الهامش إلى مركز، وبنى قاعدة صلبة تؤمن أنه “يقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله”. بحيث التشابه مع بنكيران في هذا السياق هو كسر التابوهات السياسية، ورفع شعار “أنا لست كغيري من السياسيين”.
وكذلك بالنسبة للرئيس رجب طيب أردوغان (تركيا) الذي تبنى نفس الأسلوب من خلال المزج بين الخطاب الديني والوطني، مع نبرة تحدي واستفزاز تجاه الغرب والخصوم الداخليين ، بل وصف بعض معارضيه بـ”الخونة”، “العملاء”، و”أعداء الأمة”. واستطاع من خلال ذلك أن يرسم خطًا هوياتيًا واضحًا بين مؤيديه وخصومه، وفرض هيمنة خطابية على المشهد السياسي. ولعل التشابه مع بنكيران يكمن في التوظيف القوي للقضية الفلسطينية كرافعة رمزية، والربط بين التدين والانتماء الوطني.
ثم هناك تجربة جان لوك ميلونشون (فرنسا)، الذي اعتمد ذات الأسلوب الخطابي الناري، حيث انتقد بشدة المؤسسات والنظام الرأسمالي، واستخدم كلمات مثل “النخبة الفاسدة”، “الطغمة المالية” ، وساهم اسلوبه في خلق وعي طبقي ثوري وتحشيد قاعدته الشعبية.
فابن كيران لا يخرج خطابيا عن هذا المدرسة ، فهو لا يترك أي شيء للصدفة والانفعال والعفوية ، بل يعي جيدا ما يقول ويصنع دلالته الخطابية بذكاء لغوي لحظي لكنه معبر عن عمق إيمانه بما يقول ويعارك من أجله ، لذا أجزم أن كل تصريحاته تتميز بكثافة دلالية وهوما يجعلها مثار نقاش وردود فعل ، ومن الغباء مقاربة ملفوظه بما درجت عليه الساحة السياسية المغربية ، فالرجل اغنى القاموس السياسي المغربي بالتماسيح والعفاريت ، ولا زال يعزز حقل التدافع السياسي بل ويجدد في مفرداته ، لذا يجب التعاطي مع كلامه بمنهجية تحليل صارمة والا تنهزم ردود الفعل عند قشور ما يؤمن إليه ويعمل له .