story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

يوليوز 1925-يوليوز 2025.. الثورة السورية الكبرى وثورة الريف ضد الاستعمار الفرنسي بعد مائة عام

ص ص

بعيدا عن أية مقارنة بين الثورتين أو الحالتين أو عن أي ربط للريف أو المغرب بالقومية العربية أو بالسردية المشرقية، هذا المقال هو مجرد محاولة بسيطة في استحضار تاريخي تعبر فيه حالتان تاريخيتان عن تقاطع وعن تجذر في السرديات الاستعمارية ليس فقط عبر جغرافيات مختلفة بل أيضا عبر أزمنة مختلفة ومتباعدة، وهو ما أصبح جليا في الأحداث الراهنة، بحيث نلاحظ كيف أن اللغة والخطاب الاستعماريين لا يختلفان اليوم في كثير من المفردات والخطوط العامة عن اللغة والخطاب الاستعماريين منذ مائة عام.

أثارت انتباهي مطلع الأسبوع الماضي (الأسبوع الثالث من شهر يوليوز 2025) الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل، ويظهر فيها مسلحان من الجماعات التابعة للنظام السوري بزعامة أبي محمد الجولاني (أحمد الشرع)، وهما يدوسان صورة للزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش بعد اقتحام مدينة السويداء الدرزية جنوب سوريا.

إنها لمن سخرية الأقدار أن يحدث ذلك في نفس الشهر وفي نفس المكان الذي شهد منذ مائة سنة بالتحديد، أي في يوليوز من سنة 1925، انطلاق الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي، وهي الثورة التي انطلقت شرارتها من جبل العرب أو المسمى بجبل الدروز ومن عاصمته السويداء، لتكتسح خلال سنتين (1925-1027) مناطق عديدة من سوريا ولبنان من دمشق وحلب وحماة إلى بعلبك والبقاع اللبناني.

وقد انضافت الثورة السورية الكبرى لتشكل تحديا مضاعفا للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية خاصة أن هذه الأخيرة كانت تخوض في نفس الوقت حرب إبادة شرسة ضد المقاومة والأهالي في الريف وجبالة. وقد تزامنت الثورتان بشكل كان يهدد صورة الاستعمار الفرنسي ووجوده بالمغرب، خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها الفرنسيون على جبهة ورغة في أشهر ماي ويونيو ويوليوز من سنة 1925، من طرف المقاومة الريفية والجبلية، ثم في معركة المزرعة قرب السويداء في مستهل شهر غشت والتي أباد فيها المقاتلون الدروز قوة عسكرية فرنسية قدرت بالآلاف تحت قيادة الجنرال روجي ميشو.

لذلك، وجد الفرنسيون صعوبات جمة على المستوى العسكري واللوجيستي والبشري في قمع الثورتين في نفس الوقت إلا بعد اللجوء إلى ترسانة تقنية وعسكرية وبشرية هائلة وتتجاوز في أساليبها وتكتيكاتها كل خصائص وأخلاقيات الحرب الكلاسيكية المتعارف عليها حتى ذلك الوقت.

في تقديمها لمذكرات ورسائل جدها، التي صدرت سنة 2021 في خمسة أجزاء تحت عنوان “المذكرات الحقيقية لسلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى: وثائق من أوراقه من 1910 إلى 1989″، كتبت ريم منصور سلطان الأطرش ما يلي: “ساهمت ثورة الريف المغربي ضد الاستعمار الفرنسي بتخفيف الضغط عن الثورة السورية”، لكن هذا الضغط سرعان ما “ازداد بعد اضطرار الخطابي الى الاستسلام للفرنسيين”.

شددت الثورة السورية الكبرى بزعامة الدروز على رفض الانتداب الاستعماري الفرنسي ورفض تقسيم سوريا على أساس طائفي، بعد أن سعت فرنسا إلى تقسيم البلاد إلى دويلات وإمارات صغيرة (الدروز، العلويون، دمشق، حلب، الخ).

كما كان موقف الثوار واضحا في رفضهم وعد بلفور الذي منح وطنا قوميا للمهاجرين اليهود الأوروبيين على حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين. وقد أكد سلطان باشا الأطرش في ندائه الشهير “إلى السلاح” بعد معركة المزرعة على “وحدة البلاد السورية، ساحلا وداخلا والاستقلال التام ونيل الحرية غير المنقوصة”.

كما كان حريصا على الوحدة والحفاظ على العيش المشترك داخل البلاد السورية وهو ما عبرت عنه مقولته الشهيرة التي اتخذها شعارا للثورة السورية الكبرى: “الدين لله والوطن للجميع”. في رسالة لأخيه نائب القائد العام للثورة السورية الكبرى، يكتب سلطان باشا الأطرش ما يلي: “حافظوا على المسيحيين وإياكم أن تجعلوا أحدا يأتيهم بسوء. أمنوهم على أنفسهم وحياتهم وأموالهم وامنعوا التعديات عنهم لأننا كلنا أبناء وطن واحد”.

وقد حاول البريطانيون إغراء باشا الإطرش بالأموال ورغد العيش مقابل إلقاء السلاح، فكان جوابه للمعتمد البريطاني في دمشق: “إن سعادتنا هي في استقلال بلادنا ووحدتها وحرية شعبنا وجلاء القوات الأجنبية عن البلاد”.

على خطى الخطابي

مثل الخطابي، بعث سلطان باشا الأطرش بعدة رسائل إلى المجتمع الدولي يشرح مطالب ثورته وسعيها للحرية والاستقلال. ففي نداء موجه إلى عصبة الأمم سنة 1922، أكد الأطرش على رفض الانتداب رفضا تاما كما استنكر فيه جرائم الفرنسيين من تدمير للقرى “بقنابل الطيارات وقتلها للنساء والأطفال والشيوخ وإحراق البيادر”. ويستنكر الأطرش في إحدى رسائله “فضائع الجيش الفرنسي في الجبل وسوريا من هدم البيوت وحرق المعابد والمدارس وقطع الأشجار وقتل الأبرياء بالقنابل الكبيرة، حتى لقد بلغ ما يلقى من الجو على القرى الآمنة يوميا ستة آلاف كيلو من الديناميت”.

لا تختلف كثيرا هذه اللغة والمواقف للأطرش عن تلك التي عبر عنها الخطابي في نداءاته المتكررة مثل ندائه المعروف ب”رسالة إلى الأمم المتحضرة” سنة 1922، والتي ورد فيها ما يلي:

“لقد آن الأوان أن تعمل أوربا التي تزعم في القرن العشرين هذا بأنها ترفع لواء الحضارة وتصبو إلى صلاح الإنسانية بنقل هذا المبدأ النبيل من القول إلى الفعل … لقد تحول الريف في الوقت الراهن إلى ساحة حرب لا مبرر لها … ستتسبب في هلاك العديد من الإسبان والريفيين من دون جدوى. يعتقد الإسبان بأن أوربا قد عهدت إليهم بمهمة إصلاح الريف وتمدينه، غير أن الريفيين يتساءلون: هل يتمثل الإصلاح في تدمير مساكنهم باستعمال أسلحة محظورة، أم قوام هذا الإصلاح هو التدخل في شؤونهم الدينية أو اغتصاب حقوقهم؟”

في شمال المغرب، وفي نفس الفترة التي انطلقت فيها الثورة السورية الكبرى في يوليوز من سنة 1925، كانت فرنسا تحشد قواتها البرية والبحرية والجوية للانتقال من مرحلة تسميها السردية الاستعمارية الفرنسية بالمرحلة “البطولية” في حرب الريف، والتي يقصد منها مرحلة ماي ويونيو إلى مرحلة الحرب الشاملة.

يقصد بالمرحلة “البطولية” تلك التي حاول فيها الفرنسيون التقليل من الخسائر والحفاظ على وضع عسكري يسمح لهم بمعاودة الهجوم في الصيف والخريف رغم الخسائر الكبيرة التي لحقت بهم سواء في الأرواح أو المعدات أو المواقع العسكرية بعد نجاح المقاومة في إسقاط ما يصل إلى ستين موقعا وتحصينا كان الماريشال ليوطي قد أقامها سنة 1924 شمال نهر ورغة.

وقد اضطرت فرنسا خلال هذه الفترة إلى توظيف ما كان متاحا من قواتها البرية وكذا الجوية إلى درجة الإرهاق. لكن شكلت مرحلة يوليوز وما بعدها عنوانا للتحالف الفرنسي الإسباني والحرب الشاملة على كل الجبهات، حشدت فيها فرنسا مئات الآلاف من القوات وكذا عددا هائلا من الأسراب الجوية تمت الاستعانة بها لأول مرة. كان الفرنسيون يستعينون في البداية بستة أسراب على الجبهة الشمالية من مجموع 10 أسراب متمركزة بالمغرب، ثم ألحقت بجبهة الريف كل الأسراب المتبقية التي كانت في الجنوب أو في مناطق أخرى كمراكش، وقصبة تادلة وبودنيب (أبريل). وتم بعد ذلك استدعاء الأسراب المتمركزة في الجزائر وتونس (ماي ويونيو)، ثم نودي على أسراب من قاعدة ميتز وقاعدة ديجون في فرنسا (ماي)، وعلى سرب طائرات من نوع “فارمان غوليات” مباشرة من قاعدة بويرس-كييرفو (غشت). وقد كان هذا النوع آنذاك من أكبر وأضخم الطائرات المتوفرة، وهي قادرة على حمل قنابل من زنة 100 كيلوغرام، كما كانت الأنسب للقيام بالتحليق ليلا وهو ما لم يكن متاحا للطائرات الأخرى (من صنف بريغيت في الغالب)، بالإضافة إلى أنها كانت الأنسب أيضا للقيام بمهام الاستطلاع والتصوير والمسح الطوبوغرافي للمناطق المستهدفة. وهكذا فقد حشدت فرنسا لوحدها 23 سربا بما مجموعه حوالي 170 طائرة، بما فيها سرب من المرتزقة الأمريكيين سمي بسرب الحرس الشريف تشكل من 16 طيار أمريكي وكندي واحد.

لذلك فقد شكلت مرحلة نهاية صيف 1925 بداية التحول في حرب الريف بسبب الحرب الشاملة التي شنها الفرنسيون والإسبان من البر والبحر والجو استعملت فيها كل أنواع الأسلحة المعروفة آنذاك بما فيها الأسلحة الكيماوية. في معركة البيبان مثلا في سبتمبر من سنة 1925، حلقت 169 طائرة فرنسية ألقت ب20 طنا من القنابل في يوم واحد فقط. وهي الحملة التي يرجح بعض المؤرخين مثل دانييل ريفي بأن الفرنسيين قد استعملوا خلالها أسلحة كيماوية. وبالنظر إلى الترسانة الحربية والاستراتيجية العسكرية التي تم توظيفها من طرف الفرنسيين والإسبان في صيف وخريف 1925، فقد كان توصيف الباحث الأنثروبولوجي الأمريكي بول رابينوو دقيقا عندما كتب بأن “حرب الريف كانت مختبرا للحداثة”.

تخفيف على الجبهة السورية

انشغال فرنسا بهذه الحرب الشاملة على جبهة ورغة خفف نسبيا من حدة الهجوم الفرنسي على المقاومة السورية رغم أن القرى الدرزية والسورية بشكل عام لم تسلم من استهداف الطيران والمدفعية حتى في تلك الفترة. في رسالة إلى سلطان باشا الأطرش، يكتب المقاوم اللبناني رشيد طليع (باسمه المستعار محمد الطرابلسي) والذي استشهد سنة 1926:
“للآن لم يرد من فرنسا نجدات إلى سوريا، ونشاط عبد الكريم الأخير وأخذه خطة الهجوم مؤخرا على الجيش الإفرنسي في المغرب أوقع فرنسا بارتباك وجعلها غير قادرة على إمداد جيشها في سوريا”.

مع احتدام الحرب على جبهة ورغة وتزايد التعزيزات البرية والبحرية والجوية الفرنسية، أصبح استهداف القرى والحقول وقطعان الماشية وموارد المياه وقصف الأسواق والمنازل والتجمعات السكنية وتجمعات الفلاحين والمقاتلين بالريف وجبالة (الشاون، أجدير، أيت قمرة، غفساي، بني زروال، تغزوت بني حسان، الخ) سياسة منهجية متبعة تهدف ليس فقط إلى قتل أكبر عدد ممكن من الأهالي بل إلى تجويع الناجين منهم. كتب بول أرمونغو، قائد القوات الجوية الفرنسية في المغرب (أو ما سمي بالفوج الجوي الفرنسي السابع والثلاثين بالمغرب) في تقرير له موجه إلى المارشال ليوطي ومؤرخ في 19 يوليوز 1925 ويبرر فيه ضرورة خوض الحرب الجوية الشاملة بأن “أصل الشر يأتي من الريف، وفقط في الريف يمكن استئصاله” (انظر أيضا كتابه الموسوم ب”بعض الدروس المستخلصة من حملات الريف في المجال الجوي”). يروي مثلا الطيار الأمريكي في سرب الحرس الشريف بول روكويل في مذكراته (في مخطوط غير منشور حصلت على نسخة منه من أرشيف العائلة) أن من بين التعليمات والأوامر التي كانوا يتلقونها من القيادة الفرنسية أن عليهم استهداف قطعان الماشية. وتؤكد شهادات عديدة مثل هذه الممارسات. يذكر المحارب الروسي زينوفي بيشكوف (إبن الروائي الروسي مكسيم غوركي بالتبني) في مذكراته حول هذه المرحلة أنهم كانوا عادة ما يقومون بحرق القرى وإتلاف حقول الحبوب والذرة في المناطق الموالية لابن عبد الكريم التي يغيرون عليها. وبالمناسبة، لم يكن غوركي صاحب رواية “الأم” راضيا عن مشاركة ابنه في الحرب خاصة بعد جرحه البليغ في معركة بعين عيشة (قرب تاونات)، وكان يرى بأن على فرنسا وأوربا إعادة النظر في قيمهما بدل خوض حروب جديدة. الجنرال أندري بوفر، الذي أصبح رئيسا لهيئة الأركان العامة للمقر الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا نهاية الخمسينيات، والذي كان يتقلد رتبة ملازم ثان أثناء حرب الريف، يؤكد نفس الشيء في مذكراته، حيث كتب بأن حرق القرى ونهبها كان ممارسة ممنهجة واعتيادية وتحظى بمباركة القادة العسكريين الفرنسيين، رغم أنه يربطها في الغالب بممارسات المجندين المغاربة في الجيش الفرنسي.

محاربة الإخوة

مشاركة المجندين من شمال افريقيا في الجيش الفرنسي من جزائريين ومغاربة وتونسيين سواء ضد ثورة الريف أو الثورة السورية الكبرى شكلت هاجسا لكل من الخطابي وسلطان باشا الأطرش، وقد وجه الإثنان نداءات متكررة لهؤلاء المجندين لترك الخدمة في الجيش الفرنسي وعدم محاربة إخوانهم. فيما يلي نص النداء الذي وجهه سلطان باشا الأطرش للمجندين المغاربة في الجيش الفرنسي بسوريا:

“إلى إخواننا المسلمين من الجنود المغاربة في الجيش الإفرنسي، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. فإننا نأسف شديد الأسف لما يهرق من دمائكم في بلادنا هذه التي تدافع عن حريتها واستقلالها تجاه عدو مشترك قد استولى على بلادنا وبلادكم، وفعل في البلاد ما فعل من المظالم التي تعلمونها، وإنه يسوؤنا وحق الله أن نوجه إليكم سلاحنا الذي لم نحمله إلا لنفتك بالجنود الإفرنسية فقط لأننا نعلم أن الإفرنسيين يكونون على تمام السرور سواء قتلتمونا أم قتلناكم، لأننا كلانا أعداء لهم. ولذلك ترون أن إخوانكم في المغرب الأقصى يفرون من الصفوف الإفرنسية وينضمون إلى المجاهد الكبير الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أيده الله. ويهمنا أن تعلموا حق العلم أننا قد اخترنا هذا الوقت للقيام على الإفرنسيين في سورية لنحفظ بلادنا، ولنكون عونا كبيرا للأمير محمد بن عبد الكريم في جهاده المغربي الموفق. فمن شاء منكم أن لا يعرض نفسه للموت ودمه للسفك، فمن السهل عليه أن يلتجئ إلينا ويترك الجيش الإفرنسي الذي فتك من قبل بآبائكم وأجدادكم واستعبدكم وأكل خيرات بلادكم، وهو يسوقكم اليوم إلى الموت لمحاربة إخوانكم المسلمين في سورية، وهو لا يهمه حييتم أم متم. أما نحن فإننا مستعدون لمعاملتكم معاملة الإخوان لإخوانهم لا معاملة أسرى، ومستعدون أيضا أن نرسل إلى بلاده من شاء منكم السفر إلى الوطن، ونعطي من بقي منكم عندنا أرضا زراعية تكفيه لمعيشته وإقامته في هذه البلاد. والسلام عليكم”. القيادة العامة للثورة الوطنية السورية، 1925.

وحتى أثناء اشتداد الحرب الشاملة ضد الريف وجبالة وتفاقم الخسائر البشرية والوضع الإنساني في المنطقة، كانت القيادة العامة للثورة السورية تحاول استلهام نموذج المقاومة للرفع من معنويات المقاتلين السوريين حتى بعد بضعة أيام من استسلام بن عبد الكريم. ففي بلاغ رسمي لسلطان باشا الأطرش كقائد للثورة، نقرأ ما يلي:

“قد أيدت الأنباء الواردة أن عبد الكريم زعيم الريف قد كسر جيوش الإفرنسيين والإسبان شر كسرة … وأما البلاغ الذي ألقته الطائرات الإفرنسية بدون إمضاء فهو اختلاق محض يراد به التهويل على ضعفاء القلوب وسوقهم إلى الخضوع والتسليم، فاحذروا من الوقوع في شرك الخداع والتضليل واعلموا أن الله معنا وأن النصر سوف يكون حليفنا وأن الحركات الثورية في جميع أنحاء سورية ناجحة كل النجاح فبعلبك وجبال الهرمل وطرابلس وحمص وحماة إلى حلب كلها ثائرة”.

في منشور آخر موجه إلى “المجاهدين الكرام”، يذكر الأطرش بيانا يقول أنه صدر عن امحمد بن عبد الكريم، شقيق الخطابي، وقد تم نشره بعد الاستسلام، هذا نصه:

“أيها المجاهدون الأحرار، أرادت فرنسة أن تخدعكم وتوهمكم في المدة الأخيرة أنها ستسوق عليكم الجيوش الجرارة من ميادين الريف، ولكن هذه الأباطيل وسواها ليست إلا زورا وبهتانا لأن ثورة الريف ما زالت مضطرمة أيما اضطرام ومحتدمة احتداما لم تعهده فرنسة من قبل، يؤيد صدق قولنا هذا وكذب فرنسة وخداعها وتضليلها ما جاء في بيان عام نشره الأمير امحمد بن عبد الكريم شقيق الأمير عبد الكريم المستسلم على العالم أجمع بعيد استسلام أخيه، يدحض فيه مزاعم فرنسة ويدعو العالم إلى عدم تصديق بياناتها وما تنشره من الأكاذيب عن انتهاء ثورة الريف، وهذا نص ما جاء في الكتاب حرفيا: ‘هذا ولا تظنوا ظن السوء ولا يدهشكم ما جرى أو يجري ولئن اضطر شقيقنا إلى التنازل فهنالك نعترض به ما دام فينا بقية صالحة من الحياة، فسنعمل لحفظ وتوطيد دعائم أركان وجودنا. الإمضاء امحمد بن عبد الكريم 1926′”.

قد يطرح هذا البيان أسئلة مشروعة وضرورية حول صحة نسبته إلى امحمد الخطابي وكذا توقيته. صحيح أن المقاومة قد استمرت بعد الاستسلام خاصة في بعض مناطق جبالة بقيادة القائد أحمد اخريرو حتى سنة 1927 لكن من الواضح أن الهدف من منشور الأطرش تحفيز المقاتلين والرفع من معنوياتهم رغم الأخبار الواردة على بلاد الشام من الريف.
بعيدا عن أية مقارنة بين الثورتين أو الحالتين أو عن أي ربط للريف أو المغرب بالقومية العربية أو بالسردية المشرقية، هذا المقال هو مجرد محاولة بسيطة في استحضار تاريخي تعبر فيه حالتان تاريخيتان عن تقاطع وعن تجذر في السرديات الاستعمارية ليس فقط عبر جغرافيات مختلفة بل أيضا عبر أزمنة مختلفة ومتباعدة، وهو ما أصبح جليا في الأحداث الراهنة، بحيث نلاحظ كيف أن اللغة والخطاب الاستعماريين لا يختلفان اليوم في كثير من المفردات والخطوط العامة عن اللغة والخطاب الاستعماريين منذ مائة عام.

الدوس بالأرجل فوق صورة زعيم وحدوي وطني والذي افتتحت به المقال يعكسه أيضا دوس رمزي نشهده باستمرار في تعاملنا مع تاريخنا. وقد يكون في مرور ثمان سنوات منذ أن سلبت حرية شباب مغاربة لأنهم هتفوا بهذا التاريخ ورموزه مثال فاقع على هذا الدوس الرمزي.

*محمد الداودي.. أستاذ باحث، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء