“هوليغانز” الإعلام
يظهر أن السلطة ضاقت ذرعا بتفاهةٍ تغزو شبكات التواصل الاجتماعي تحديداً. توقيفات بين “نشطاء” رقميين واسعي الانتشار كانوا يحقِنون شرايين المجتمع بجرعات زائدة (Overdose) من الإسفاف.
يهمُّك أن يُحترم القانون خلال تنفيذه على هؤلاء، لا أقلّ ولا أكثر. وتُنبِّه إلى أن حلولا أخرى غير مُجَرَّبة ربما أفيدُ في ضبط الفضاء الرقمي.
ويهمُّك أيضاً أن تشير إلى أنّ حدودَ الإسفاف انهارت بين شبكات التواصل الاجتماعي وبين “صحافةٍ” لا تؤدّي أيّاً من وظائف الصحافة، إلا استغلالا لاسمها وتقاطعاً مع التفاهة للإضرار بسمعة الأفراد ومصالح الجماعات، وبمجموع الوطن.
هذه “الصحافة” استثمرت في التفاهة وربطت معها جسوراً مديدةً، وفتحت استوديوهاتها لروادها، وشغّلتهم، ومكّنتهم عبر مواردها الهائلة من الوصول إلى الجمهور، بكل بذاءاتهم وسوءِ منطقهم وسلوكهم. وفي اللحظة التي انهارت المسافة الفاصلة في هذه الممارسات بين الصحافة والتفاهة خسر المجتمع والدولة.
لم يستوعب مشغلو هذا النوع من “الصحافة” أن الإضرار بالصحافة يعني، بشكل جازمٍ، تعطيل أحد المنبّهات الأكثر حيوية في رصد التحولات وتبليغ الأصوات التي تعْتمِل في المجتمع، وفي ترصيد المكاسب الجماعية المتراكمة، لا هدمها.
فات مشغلو هذا النوع من “الصحافة” أن الصحافة المهنية منبّهٌ في المنعرجات الحادّة على طريق الديمقراطية، ومُحذِّر من الأحجار المتساقطة، وضوء كشّاف وسط ضباب الالتباسات، و”شرطة مرور” من خلال الرقابة على تدبير الشأن العام، وتؤدّي أيضا، إن استدعت الضرورة، وظيفة الفرامل لكبْح التغوّل والاستغلال غير القانوني للسلطة، من أيٍّ كان.
من حاول حرمان المغرب من الصحافة، بإمراضها بالتفاهة، كان يلعب بالنار، ويمهّد للمفاجآت. تفَجُّر دينامية جيل زد من “العدم”، وخارج كل رصدٍ، كان دليلاً وبرهاناً. “الصحافة المصابة بداء التفاهة والتشهير” المُمَوَّلة من المال العام لم تقْدر على المواكبة وعلى إدارة النقاش العمومي، أو حتى المساهمة فيه. دخلت طيلة أيامٍ في عطالةٍ دالّة، أكدت لمن راهن عليها أن “المَكْسي بصحافة (..) عريان”.
أيضاً، بعد التحوّل التاريخي الذي شهدته قضية الصحراء المغربية، ليلة 31 أكتوبر 2025، لم تتجاوز هذه “الصحافة” حدود “التطبيل المُسْتَهلَك” الفارغ من كل مضمون جدّي، تحتاجه الدولة قبل المجتمع. ظهر أيضاً أن ما يُنفق عليها من مواردَ “مالُ سُحْت” حين عجزت عن تركيب جملة مفيدة تُغني النقاش الوطني.
فقط، حاضرون وجاهزون عندما يُطلَبُ “تسليح النقاش العمومي” وتحويله إلى ساحة حرب تخلو حتى من “أخلاق الحرب”، وتنمحي فيها الحدود بين المشروع وغير المشروع في إدارة الصراع المجتمعي، حين يتوسّلون كل قبيحٍ للإضرار بمن يُنَصِّبونهم “أعداء”، مستخدمين سلاح الوطنية الفتّاك لتبرير القتل الرمزي والتشنيع.
قيام هذه “الصحافة” بهذه المهمة يخدم هدفاً واضحاً: تسميمُ المناخ بضخّ مناسيبَ عاليةً من لغة التجريح والتعيير والإساءة، خارج كل ضبط.
وهذا التسميم ليس عرضاً، بل نتيجةٌ مُفكّر فيها. نتيجةٌ تُستعمل فيها بعض الصحافة “كاسحةَ نقاش”، لإخلاء الجو لسلطوياتٍ تنزعجُ من سماعٍ الأصوات التي “لا تُعجب”.
التسميمُ هنا سلوكٌ واعٍ أيضاً لإخراس النُّخب التي من عاداتها أنها لا تطيقُ الضجيج، ولا تتحمّل الإسفاف، ولا ترتاح للفوضى، فتَهْجُر النقاش العمومي إلى مكتباتها وتنظيراتها ومدرّجات جامعاتها، تاركةً المجتمع نَهْشاً لكل “ضبعٍ”، وإن ارتدى بدلة وربطة عنق، أو حمل ميكروفوناً، أو كتب افتتاحيات (ركيكةً)، أو كان سياسياً انتهازياً، أو نَظَّر في السياسات العمومية ولا يهمّه في النهاية إلا أن يغتني أكثر هو “ومن معه”، أو رجل سلطة يعتقد أن الشعب “لا يُحْكَم إلا بالسَوْط”.
إخلاء الساحة عبر هذه الصحافة، بمنطق “الهوليغانز” (hooligans)، يسبّب أضرارا في جسم المجتمع، ويضرّ الدولة. ولا رابح من هذا التوجّه المتوحِّش في إدارة النقاش العمومي.
صحافة مُزَيَّفة “تنتحل الصفة” وهي تؤدي وظائفَ لا علاقة لها بالصحافة، ومُزَيِّفة للحقائق، والأخطر أنها مُزَيِّفة لوظيفتها.
تصعيدُ هذا النموذج والتمكين له، وتبنّيه ورعايته من دوائرَ رسميةً، ظهرَ ضرره. وتلك التجربة التأسيسية للمجلس الوطني للصحافة التي تعرّضت لـ”عملية اختطاف” أمام أنظار واستنكار الجميع، ومع ذلك مرّت بمنطق “الهوليغانز”، قبل أن تصطدم بالحائط، تُخبِر عن كل شيء.
أمّا الزعم، بعد “خراب مالطا/ المجلس”، بأننا “جميعا مسؤولون” فتهريبٌ للمسؤوليات، وإمعان في الخطأ، ومحاولة لتفويت فرصة إعادة البناء على أساس سليم. المسؤولون حصراً من دعموا هذا المسار التخريبي، ومن كانوا فاعلين فيه، ومن برّروا خرق القانون والتعدّي على الصلاحيات، عبر فذلكة التخريجات المعيبة والساقطة قانوناً، قبل أن تسقط أخلاقياً في فضيحة لجنة “غيّز ليه”.
وبعد أن هدأت عاصفة “اللجنة”، فتجري الآن محاولة إعادة “اختطاف المنصّة”، وانتزاع الميكروفون، والأضواء، لـ”استعادة المبادرة”، ولترسيخ مشهدية جديدة/ قديمة، تعيد تدوير نفس النّهج، وإن لم يكن بنفس الوجوه. لم تتراكم إلى الآن العناصر الكافية للاطمئنان إلى وجود نوايا للتراجع عن مسار التغلّب والمرور عُنوةً.
وللاختصار، وجب القول إنه لا معنى لـ”إلباس الجثث الباردة أثوباً برّاقة”.
استهداف التفاهة في شبكات التواصل الاجتماعي نقطةٌ حسنة، لوقف هدرٍ أخلاقي مشهود، ولإرسال إشارة أن لـ”الصبر حدود”، وأن سلطان القانون ناجزٌ في مواجهات العبث. لكن هناك عبثٌ لا يقلّ خطورة في جسم الصحافة، يتقاطع مع عبث العابثين في شبكات التواصل، والفرق بينهما فقط في أنّ أحدهم يحمل بطاقة صحافة، وآخر لا يحملها.
قصارى القول
الآن، لا تطلبُ إقصاءَ أحد، ومقتنعٌ أن قوة الصحافة في تعدّدها، وفي اختلاف خطوطها التحريرية، وفي تعبيرها عن تنوّع المجتمع المتعدّد، وبصلاتها المهنية بدوائر القرار، ومنافذ التأثير، خدمةً لمصلحة عامة يعرفُ الصحافيون كيف تؤدّى بلا تدليس على المجتمع، وبدون خرقٍ لأعرافٍ وأخلاقياتٍ مرعيةٍ.
لا تطلب اجترار خطايا الهيمنة. بل تحمّلاً للمسؤولية يناورُ كثير من صنّاع كوارث المرحلة التأسيسية للمجلس الوطني للصحافة التهرب منها. تطلبُ حداً من الأخلاق للانتهاء من التنطّع الذي يركبُ عقل البعض الذي لا يزال يعتقد أن العجلةَ لن تدور إلا والمِقودُ بين يديه.
تطلبُ، تحديداً، أن تُشير الدولة، بوضوح، إلى أنّها معنيةٌ بتأهيل قطاع الصحافة وتمكينه من التنظيم الذاتي حقّاً وحقيقة، بكفّ يد السلطة الحكومية عن العبث الذي انتهى بمآسيَ قانونية وأخلاقية. كان بالإمكان أحسن ممّا كان، وعلى هذا الأساس يجب أن يتوقّف مسارُ هيمنةٍ و”غلبة” زعم أصحابه وروّجوا أنّ “كتافهم سخان بالدولة”.