نخرس نحن وتصرخ فاينانشل تايمز!

ذكّرني عنوان افتتاحية صحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية قبل يومين، والذي يقول: “الصمت المخزي للغرب بشأن غزة” (The west’s shameful silence on Gaza)، بمقالي السابق الذي حمل عنوان “غزة.. صمت بوريطة المخجل“، والذي “أكلت” بسببه ما لم “يأكله الطبل” من سبّ واستهداف بجميع الأشكال، كأن السيد بوريطة بات من المقدّسات.
وهالني هذا التناقض الفاقع بين عالم غربي يمارس كل أشكال الظلم والطغيان، لكن فيه بقية من إمكانية رفع الصوت بالصراخ والاحتجاج وتسمية الأشياء بأسمائها؛ وحالنا الذي نزعم فيه أننا آخر من يحمل ضمير البشرية، وبتنا معه نفكّر ألف مرة قبل أن نقول عُشر كلمة حق!
ففي لحظة مفصلية من تاريخ العالم، يطبعه الجنون وتنكّر الإنسان لإنسانيته، وبينما الدم الفلسطيني ما زال ينزف في غزة، والمجازر تتوالى بلا هوادة، والعالم يوشك أن يعتاد صور الجوع والدمار؛ اختارت صحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية أن تكتب افتتاحيتها بلغة الغضب والخجل.
لم تلجأ الصحيفة إلى لغة الدبلوماسية الإنكليزية الباردة، ولا إلى المناورات اللفظية التي أتقنتها مراكز القرار في الغرب، بل صرخت من على منصتها قائلة: “السكوت الغربي مخزٍ… والغرب يشارك في تمكين نتنياهو من ارتكاب الجرائم”.
صرخة لا يمكن التقليل من وقعها. ليس لأن “فاينانشل تايمز” واحدة من الصحف الأكثر تأثيرًا في دوائر المال والسلطة، بل لأنها ببساطة قالت ما يتجنبه الجميع: إن هناك خطة ممنهجة لإفراغ غزة من أهلها، وإن ما يحدث هو شكل من أشكال الإبادة الجماعية، وإن استمرار التواطؤ الغربي، بالصمت أو بالتواطؤ، لا يعني سوى تعميق المجزرة.
وفي هذه اللحظة تحديدا، لا يمكن لأيٍّ منّا –لا في الرباط ولا في الرياض ولا في عمّان ولا في الدوحة ولا في القاهرة– أن يتذرّع بالجهل أو الغموض.
فالخطة الإسرائيلية باتت معلنة: احتلال غزة، وتقسيمها، وتجويع سكانها، ثم تهجيرهم قسرا نحو الجنوب، تمهيدا لدفعهم خارج القطاع بالكامل.
حتى وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموطريتش، لم يعد يتورع عن القول بأن غزة “ستُدمّر بالكامل” وأن سكانها “سيغادرون بأعداد كبيرة نحو دول ثالثة”.
في المقابل، ماذا نفعل نحن؟ ماذا تفعل دولنا وحكوماتنا ومجتمعاتنا؟
هل سننتظر أن تُعِدّ لنا “فاينانشل تايمز” مرة أخرى قائمة بما يجب علينا فعله؟ هل صارت الضمائر تُستورد من الصحف الأجنبية، وتُترجم على دفعات عبر حسابات تويتر وخلاصات واتساب؟ ألا نخجل من أن تصرخ لندن في وجه نتنياهو بينما عواصمنا تهمس بحذر حتى لا تُزعج البيت الأبيض؟ ألم يكن حريًا بنا، نحن من نحمل الجرح الفلسطيني في وجداننا، أن نكون أول من يصرخ وأول من يقاطع وأول من يفضح؟
في هذه الأيام تحديدا، يعلن الرئيس الأمريكي الشعبوي دونالد ترامب، عن “مفاجأة” دبلوماسية بشأن غزة. وتزامنًا مع زيارته المرتقبة إلى الخليج، بدأ البيت الأبيض في الضغط على الدول العربية للمساهمة في آلية مساعدات جديدة، تُدار بالشراكة مع إسرائيل، وتتجاوز وكالة الأونروا، وتستثني حماس، وتخضع للمراقبة العسكرية…
آلية لا تعترف حتى بالمبادئ الإنسانية التي تحكم العمل الإغاثي. ولا ترى في الطفل الفلسطيني سوى “مخزونا غذائيا قابلا للترشيد”.
ترامب، الذي لم يُعرف يوما بانحيازه للفلسطينيين، صار فجأة المتحدث باسم الجوع في غزة. لكنه الجوع الذي لا يمنع القصف، بل يستعمل كذريعة جديدة للمقايضة.
تتبلور الصفقة في الكواليس، عنوانها المعلن هو “وقف إطلاق النار”، لكن جوهرها هو: إطلاق بعض الرهائن الإسرائيليين، مقابل وقف مؤقت للقصف، ثم احتلال دائم لما تبقى من غزة.
وفي هذه اللحظة العصيبة، تواصل كتائب القسام صدّ التوغلات، وتُسقط قتلى وجرحى في صفوف الاحتلال، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي قصف المدارس والمستشفيات ومخيمات النزوح.
أليست هذه المفارقة كافية لهزّ الضمائر؟ أن تصرخ غزة من تحت الأنقاض، بينما تهمس الحكومات خوفا من إزعاج “شركائها الدوليين”، وتكتفي الشعوب بالصمت؟
لا تمثّل “فاينانشل تايمز” مرجعية نضالية، لكنها قالت كلمتها بوضوح، وتساءلت بمرارة عن صمت الغرب. ونحن، أبناء هذه الأرض، ألا نُسأل عن صمتنا نحن؟ وعن تواطؤ حكوماتنا، وعن خضوع نخبنا، وعن تقاعس مثقفينا، وعن اختفاء جامعاتنا من مشهد الاحتجاج، وعن انشغال إعلامنا بالحملات السطحية بدل كشف الحقيقة؟
إن غزة، التي تُدمَّر الآن، ليست مجرد جغرافيا على الخريطة، بل اختبار لكل منظومة القيم في هذا العالم. والعرب، الذين تواطؤوا بالصمت والتفاهة، سيتذكّرهم التاريخ لا كضحايا مؤامرة، بل كشهود زور.
وفي الختام، إذا كان الغرب سيخجل يوما من صمته، كما تقول “فاينانشل تايمز”، فما الذي سنخجل نحن منه؟ من دماء الأطفال؟ من صرخات الأمهات؟ أم من نظرات التاريخ التي ستسألنا: أين كنتم حين احترقت غزة ولم تُطفئوا النار بكلمة واحدة؟