نحن و”معزة” الجيران
صبيحة هذا الإثنين الأول، أي أول أيام العمل بعد فرحة مساء الجمعة الماضي، لا بدّ من التأكيد أن القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن يوم الجمعة 31 أكتوبر 2025 كان يستحق كل ما رافقه من احتفاء واحتفال، وربما أكثر.
لكن الوفاء للمصلحة الوطنية يقتضي أن نسرّح هذه الشحنة العاطفية الكبيرة إلى ميدان العقل والبرودة الواجبة بعد لحظات الانتصار.
نحن أمام لحظة فاصلة لا تتطلّب منا رفع الصوت بقدر ما تنتظر إحكام التفاصيل، لأن أخطاء الحساب في هذه المرحلة قد تعيد عقارب الملف إلى الوراء، أو تُبقينا رهائن انتشاء مؤقت لا يكتمل إلى حسم نهائي.
المعطيات المتقاطعة توحي بأن آلة الحسم الدولية (وحتى الوطنية الميدانية) بدأت تدور بجدية، خاصة في الجانب الأمريكي الذي يبدو مستعدا لاستضافة المفاوضات ودفعها إلى خواتيم عملية، مع جرعة مرونة محسوبة تُتيح للجزائر “هبوطا آمنا” من شجرة العداء المزمن.
وهذا ليس تنازلا عن حق، ولا تبريرا لأوهام الغير، بل ترجمة لقاعدة بسيطة: الانتصارات التي لا تترك للخصم مخرجا كريما تتحوّل سريعا إلى عبء جيوسياسي على المنتصر.
المطلوب إذن أن نربح المسار مع الجار، لا ضده.
في هذا السياق، لا بد من الانحياز لما أسميه “موقف الشجعان”، أي الامتناع عن لعبة التنابز والتراشق والشماتة، والالتزام بلهجة باردة مهما اشتدّ منسوب الاستفزاز في إعلام الجوار أو في تصريحات بعض مسؤوليه.
تفجير الداخل الجزائري، إن وقع لا قدّر الله، ليس مكسبا لأحد، وأولّهم المغرب. بل إن أكثر ما نحتاجه هو مغرب قوي وجزائر مستقرة لبناء حالة مغاربية جديدة. وهذا جوهر النداءات الملكية المتكررة التي تضع الحوار وحسن الجوار في صلب رؤية الأمن والاستقرار بالمنطقة.
في مثل هذه اللحظات، يصبح الانصات للأصوات داخل الجزائر، التي بدأت تكسر الصمت وتقول إن الاستثمار في العداء للمغرب كان خطأ استراتيجيا، أهمّ من الرد على المواقف المنفعلة بلهيب مماثل.
ما كتبه ونشره عبر الرزاق مقري “عيّنة” معبّرة عما يعمل في الداخل الجزائري. نعم ما زال الرجل مصرّا على خطابات عدائية ومحرّضة على الاقتتال والانقسام داخل المغرب، ولا يمكننا إلا أن ندعو له بالهداية، لكنه طرح أيضا بعض الأسئلة التي تنبئنا بما يمكن أن ينتج عن التحوّل الجاري من صدى قوي داخل بيت الجيران.
الرجل تساءل عن كلفة الموقف الجزائري في هذا الملف والجدوى منها، وعن سبب صمت من سمّاهم بالمزايدين والانتهازيين، من أحزاب ومنظمات وشخصيات. بل تسائل مقري، وهذا أهم: “لماذا ضاعت فرصة الوصول إلى الحل عبر الحوار بين دول المنطقة؟”، ولا يمكننا ألا نلاحظ هنا صدى سياسة اليد المغربية الممدودة في هذا التساؤل.
في الواجهة الدبلوماسية، يكمن الذكاء في أن نستبقي اليد الممدودة، وأن نضاعف رسائل الاطمئنان الإقليمية، وأن نقترح خطوات إنسانية عملية تخفّف احتقان السنوات الماضية، من لمّ الشمل العائلي إلى تسهيلات العبور والتعاون القطاعي الممكن.
وسياسيا، الحكمة أن نكسب عمقنا الإفريقي والأطلسي بملفات الاقتصاد والمناخ والهجرة، لأن رصيد الشرعية الدولية لا يُبنى بالبيانات فقط، بل أيضا بقدرة الدولة على تحويل الإقليم الجنوبي إلى محور للتنمية والاستقرار.
هذا عن الشق الخارجي، أما على الضفة الداخلية، فالامتحان الحقيقي يبدأ الآن.
لقد أنجزنا كثيرا في العمران والاستثمار جنوبا، لكننا تأخرنا في بناء البنية التحتية السياسية والمؤسساتية التي يمكنها أن تستوعب تحوّلا بحجم الاعتراف بحكم ذاتي حقيقي داخل السيادة.
الحكم الذاتي ليس لافتة على باب نزاع خارجي، بل صيغة عيش وطني تحتاج إلى تقعيد دستوري وتنظيمي متّسق، يحدّد بوضوح صلاحيات هيئات الحكم الذاتي وآليات فضّ النزاع بين المركز والجهة؛ ويحتاج إلى منظومة انتخاب وتمثيل تُطمئن التعدّد وتحجز مقعدا دائما للكفاءة على حساب الريع والوجاهة؛ ويحتاج إلى ضمانات حقوقية وإعلام محلي مستقلّ يجعل الاختلاف طبيعيا داخل الوحدة، لا ذريعة للتخويف؛ كما يحتاج إلى حكامة مالية ورقابة شفافة تُقنع المواطن بأن كل درهم تنمية يُرى أثَرُه في المدرسة والمستوصف والطريق، لا في البلاغات.
باختصار، نحن في حاجة إلى نقل القضية من منصة الاحتفال إلى منصة التملّك الشعبي الواعي. لا يكفي أن نرفع الأعلام كلما صدر قرار أممي لصالحنا، بل يلزم أن نحول هذا الزخم إلى معرفة عمومية دقيقة: لماذا الحكم الذاتي هو الحل الواقعي؟ ماذا تغيّر أمميا؟ ما وظيفة بعثة المينورسو بعد المراجعة الاستراتيجية؟ كيف ستبدو سلطات الجهة وحدودها؟
هنا يأتي دور المدرسة والجامعة والحزب والمنتخب والإعلام الجاد. وتبرز الحاجة إلى منصة وطنية للشرح، لا طبولا للتهليل، وورش أسئلة مفتوحة بدل شعارات موسمية. فالقضية التي يفهمها الناس ويمتلكون تفاصيلها تعيش في وعيهم أطول مما تعيش في نشرات الأخبار.
الرهان أن نردم المسافة بين ديمقراطيتنا الراهنة وديمقراطية القبول بالاختلاف إلى حدّ احتضان حكم ذاتي كريم داخل السيادة. من دون ذلك، سنربح العنوان ونخسر المتن.
الإعلام الجاد جزء من هذه الهندسة وليست مهمته تأثيث بهجة اللحظة. دوره أن يوقظ الضمير العام من سكرة الانتصار وأن يضع أمام الرأي العام خريطة الطريق: تفاصيل المؤسسات، وقواعد المساءلة، والضمانات والحقوق، وحدود السلطات، وميزانيات التنفيذ.
حين يتملك المواطنون القضية بالمعرفة لا بالزينة، يصبح أي تراجع صعبا وأيّة مزايدة مكشوفة.
وحين يُحسِن الفاعلون السياسيون الإصغاء بدل التأطير الفوقي، تتحول القضية من مادة تعبئة عاطفية إلى عقد وطني جديد.
الخلاصة بسيطة ومباشرة: سنربح القضية أكثر كلما ساعدنا الجار على الخروج الآمن من ورطته بدل دفعه إلى حافة الانفجار.
وسنربحها نهائيا كلما جعلنا الحكم الذاتي مشروعا مؤسساتيا مكتمل الأركان، وقابلا للحياة والقياس والمحاسبة، لا عنوانا دبلوماسيا جميلا.
لدينا في المغرب حكمة شعبية تعبّر عن موقف المتنطّعين بمقولة “ولو طارت معزة”، وعند جيراننا فصيلة ماعز أدمنت صعود الجبل والعناد في النزول.
وواجبنا الأول هو مساعدة “ماعز” جيراننا على النزول برفق، لا دفعهم إلى جعله “يطير”.