من معركة الصحراء إلى معركة الثقة: كيف يعيد المغرب تعريف سيادته في القرن الحادي والعشرين
حين صوت مجلس الأمن مجددا على دعم مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، لم يكن الأمر مجرد انتصار دبلوماسي جديد، بل لحظة عبور تاريخية في مسار دولة عرفت كيف تحول الحكمة إلى حسم، وكيف تترجم التراكم الهادئ إلى مكسب استراتيجي.
لقد خرج المغرب٬ بفضل الرؤية الملكية المتبصرة٬ من دائرة الدفاع إلى فضاء التأثير، ومن منطق ردّ الفعل إلى منطق صناعة القرار، في واحدة من أنجح التحولات الدبلوماسية في تاريخ شمال إفريقيا الحديث.
منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، أعاد المغرب صياغة قضية الصحراء بلغة مختلفة. لم تعد نزاعا حدوديا أو إرثا استعماريا، بل قضية بناء وطني وإقليمي. ولذلك، فحين تقدّمت بلادنا سنة 2007 بمبادرة الحكم الذاتي، فإن الأمر كان أكثر من مبادرة سياسية؛ كان رؤية استباقية لتدبير السيادة في زمنٍ يشهد تحولات جيوسياسية عميقة، حيث تُعاد صياغة موازين القوة ومفاهيم الشرعية في العالم. لقد أدرك المغرب مبكرا أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة فتحت فضاء جديدا للعلاقات الدولية، قوامه الشراكة بدل الاصطفاف، والتأثير الهادئ بدل المواجهة الصدامية. ومن هذا المنطلق، اختار أن يتعامل مع القوى الدولية المؤثرة بندية ذكية، تزاوج بين الثقة في النفس واحترام الخصوصيات المحلية، لتقدم نموذجا متفردا لدولة متوسطة الحجم تمارس سيادتها دون صخب، وتفرض حضورها عبر المصداقية والاتزان.
لقد قدّم المغرب للعالم درسا في الواقعية المتبصرة، وفتح أفقا لمقاربة إفريقية أصيلة للنزاعات السياسية، بديلة عن النماذج المفروضة من الخارج.
لكن القوة الحقيقية للرؤية الملكية لم تتجل في البيانات ولا المنابر، بل في الفعل الميداني. فبين العيون والداخلة وگلميم، تحولت التنمية إلى لغة السياسة الجديدة. لقد أصبحت المشاريع التنموية الكبرى في الأقاليم الجنوبية مرآة تعكس وجه المغرب الجديد؛ مغرب الفعل لا القول، ومغرب البناء لا الشكوى. هذا التحول العملي لم يمر دون أثر، إذ جذب أنظار إخواننا من ساكنة مخيمات تندوف الذين حرموا لعقود من أبسط مقومات الكرامة، وتحولوا بفعل مناورات الجار إلى رهائن لصراعات تجاوزهـا زمن الحرب الباردة. لقد فتحت هذه الدينامية التنموية أعين الكثيرين منهم على واقعٍ مختلف: مغربٍ يسعى إلى استعادة وحدته الكاملة، لا عبر القوة، بل عبر التنمية وضمان الحقوق، وإعادة إدماج كل أبنائه في المشروع الوطني الجامع.
وبالإضافة الى ذلك٬ فإن المشاريع الطاقية الكبرى، والمناطق الصناعية، والموانئ الأطلسية التي تُفتح أمام إفريقيا غير الساحلية — جميعها تُحوّل الصحراء إلى مختبر للمستقبل المغربي، وإلى جسر يربط الأطلسي بالعمق الإفريقي. بهذه المشاريع، استطاع المغرب أن يصوغ دبلوماسية تنموية تُنافس بل تقنع، لا بالصوت المرتفع، بل بالمنجز القابل للقياس.
لقد تميّزت الدبلوماسية المغربية خلال العقدين الأخيرين بقدرتها على تحويل الصبر إلى أداة قوة. فالمملكة لم تراهن على التصعيد، بل على تراكم المصداقية.
وبينما انهارت مشاريع سياسية كثيرة في الجوار بفعل التسرع والانفعال، اختار المغرب التدرّج الهادئ، ليصبح اليوم أحد أكثر الفاعلين استقرارا واحتراما في العالم العربي والإفريقي٬ بل وفي العالم بأسره.
القرار الأخير لمجلس الأمن جاء تتويجًا لهذا النهج؛ فحين يصف التقرير الأممي مبادرة الحكم الذاتي بأنها “الإطار الواقعي والجاد والوحيد القابل للحياة”، فإننا أمام اعتراف صريح بأن المغرب أصبح صانع التوازنات الإقليمية لا مجرد متلق لها.
ومع ذلك، فإن الانتصار الدبلوماسي لا يكتمل إلا إذا أُحسن استثماره داخليا.
فكل انتصار خارجي يطرح على الأمم سؤالا داخليا: هل نحن على مستوى ما حققناه خارج الحدود؟ أطرح هذا السؤال الذي قد لا يعجب الكثيرين بسبب حالة الشعور بالزهو لأن النصر الحقيقي لا يقاس بالإنجاز وحده، بل بقدرتنا على صونه وترجمته إلى رقي ونهضة مستدامة لوطننا ٫ وكما قال تشرشل في واحدة من أبلغ حكمه ف » إن أخطر لحظات الأمم هي ما بعد الانتصار، حين تُختبر قدرتها على إدارة ما أنجزته.»
لقد فتح هذا المكسب التاريخي أمام المغرب آفاقا واسعة وواعدة، لكنه أيضا وضعه أمام تحدي الزمن السياسي الداخلي.
فاستثمار اللحظة يقتضي نقاشا وطنيا شجاعا حول مستقبل الحياة السياسية، وضرورة تجديد النخب التي تآكلت شرعيتها بفعل زواج المال بالسلطة، وتحويل المرحلة الفاصلة عن الانتخابات القادمة إلى فرصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات.
لقد أثبتت التجربة المغربية أن الحكمة تصنع النصر، لكن الحكمة نفسها تقتضي الشجاعة في مواجهة الذات.
فالثقة التي اكتسبتها بلادنا في الخارج ينبغي أن تترجم إلى ثقة داخلية في المؤسسات وفي السياسة التي عبث العابثون بنبلها؛ ثقة تعيد للناس الإحساس بالجدوى من المشاركة، وتفتح المجال أمام جيل جديد من الإصلاحات المؤسساتية و السياسية والمجتمعية، يُرمّم ما تصدّع في علاقة المواطن بالسياسة.
المجتمع المغربي اليوم لا يطلب المستحيل، بل الوضوح والكرامة والعدالة والحق في الولوج إلى الفرص.
وإذا كان المغرب قد نجح في إقناع العالم بعدالة قضيته الترابية، فإنه قادر أيضا على إقناع مواطنيه بعدالة قضيته الاجتماعية بشرط أن تُستعاد روح الإصلاح الأولى: روح الكفاءة، والشفافية، والمسؤولية أمام التاريخ.
إن جوهر الرؤية الملكية كان دائمًا واحدا: بناء مغرب واثق بنفسه، منفتحٍ على العالم، ومخلص لذاته.
لكن هذا المشروع الكبير لا يُختزل في انتصارات الأمم المتحدة ولا في التصريحات الدولية؛ بل في تحويل الانتصار الخارجي إلى عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الحقوق والمواطنة الفاعلة.
لقد كسب المغرب معركة السيادة، وآن له أن يكسب معركة الثقة.
فالدول لا تقاس بما تحققه خارج حدودها فقط، بل بما تُنجزه في قلوب شعوبها. وعندما تتناغم إنجازات الأمة على الصعيد الخارجي مع متانتها الداخلية، أعني مع متانة مؤسساتها وقيمها في الداخل٬ تولد أمة لا تُهزم