من حرية التعبير الى التجريم

في ضوء الأحداث التي رافقت احتجاجات شباب الجيل Z في المغرب خلال شتنبر 2025، يفرض السياق الراهن إعادة التفكير في العلاقة بين السلطة والمواطن، وبالأخص الشباب. لم يكن التعامل الأمني مع هذه التحركات مقتصرا على ضبط النظام أو حماية الأمن العام، بل كشفت الممارسة الميدانية عن أنماط تعامل تتعارض مع المبادئ الأساسية لدولة الحق والقانون، وعلى رأسها ظاهرة التنميط الأمني والاستهداف المسبق بناء على مؤشرات لا تستند إلى أفعال مخالفة للقانون، بل إلى معايير ظاهرية وشخصية.
ما ميز العديد من التوقيفات المرتبطة بهذه الاحتجاجات هو أنها لم تُبْنَ على أفعال ثابتة أو حالات تلبس، بل جاءت كجزء من مقاربة وقائية أمنية قائمة على الاشتباه المسبق في فئة عمرية معينة، داخل فضاءات محددة، وبناء على خصائص شكلية. وقد تم توثيق عدد من حالات الاعتقال عبر مقاطع فيديو جرى تداولها على نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، أظهرت كيف تم توقيف شباب بسبب مظهرهم، أو تسريحات شعرهم، أو لباسهم الذي اعتبر «احتجاجيا»، أو حملهم لحقائب ولافتات تتضمن شعارات رمزية. بعض هؤلاء لم يكونوا داخل مواقع الاحتجاج، بل في محيطها أو في طريقهم إليها، مما يؤكد أن الاعتقالات لم تكن دائما مبنية على أفعال، بل على تصورات أمنية مسبقة، لا تستند إلى قرائن قانونية.
يطرح هذا المعطى إشكالا عميقا، يتعلق باستخدام ممارسات تنميطية تقوم على الحكم على الأفراد من خلال مظهرهم أو هويتهم الاجتماعية أو الرقمية، وليس على أساس سلوكهم الفعلي. في السياق القانوني، يعتبر هذا الشكل من الاشتباه غير مشروع، ويتعارض مع عدد من القواعد الدستورية والدولية، وعلى رأسها مبدأ قرينة البراءة المنصوص عليه في الفصل 23 من الدستور المغربي، والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وكذا مبدأ عدم الاعتقال أو التوقيف التعسفي، كما تكرسه المادة 9 من العهد ذاته.
الخطير في الأمر ليس فقط أن المظهر أصبح مدخلا للتوقيف، بل أن هذه المؤشرات الشكلية تحولت إلى عناصر إدانة، حيث نسبت إلى بعض الشباب تهم تتعلق بـ”التحريض على التجمهر”، أو “العصيان المدني”، أو التحريض ارتكاب جنح “، بناء فقط على ارتداء قميص يحمل عبارة تطالب بالحق في الصحة أو التعليم، أو إظهار تضامن مع قضايا دولية مثل فلسطين. وهي جميعها، بحسب المعايير الدستورية والدولية، أشكال محمية من حرية التعبير والتجمع السلمي. فالفصل 25 من الدستور المغربي يضمن حرية الرأي والتعبير بجميع أشكاله، والمادة 19 من العهد الدولي تؤكد حق كل شخص في التعبير بحرية، سواء كان ذلك بالكلام أو الكتابة أو الصورة أو غيرها من الوسائل الرمزية.
إن ربط هذه الأشكال الرمزية من التعبير بتهم زجرية يفرغ الحق في التعبير من مضمونه، ويكرس استخدام القانون الجنائي كأداة لتقييد الحريات بدل حمايتها. وفي هذا السياق، يصبح التنميط ليس فقط ممارسة امنية ميدانية، بل مدخلا لبناء هندسة قانونية للتجريم تقوم على مظاهر خارجية أو نوايا مفترضة، وليس على أفعال مثبتة.
علاوة على ذلك، فإن استهداف هذه الفئة العمرية تحديدا – أي شباب الجيل Z – يُضفي على التنميط بعدا جيليا، يعكس نوعا من التمييز غير المباشر القائم على الفئة الاجتماعية والانتماء الرمزي. فأغلب من تم توقيفهم كانوا من أوساط مجالية أو اجتماعية هشة، لا يملكون أدوات الحماية القانونية، ولا ينتمون إلى شبكات تنظيمية قادرة على تأمين المرافعة عنهم أو دعمهم مؤسساتيا. هذا النوع من الاستهداف المتكرر يعكس خللا في ضمان مبدأ المساواة في الحماية القانونية، كما هو منصوص عليه في الفصل 6 من الدستور والمادة 26 من العهد الدولي، التي تحظر التمييز القائم على الأصل الاجتماعي أو أي وضع آخر.
تداعيات هذه الممارسات تتجاوز البعد القانوني الفردي، وتمس البنية الأوسع للفضاء العمومي. فحين يشعر الشباب أن ظهورهم في الفضاء العام، بمظهرهم الطبيعي أو بآرائهم، قد يجعلهم عرضة للتوقيف أو الملاحقة، فإننا نكون أمام تحول خطير في مفهوم المواطنة. إذ تتحول الهوية الفردية إلى عبء، والمشاركة السياسية إلى مجازفة، والمظهر الخارجي إلى تهمة محتملة. وهذا ما يكرّس ما يُعرف في أدبيات الحقوق بـ”الأثر المجمّد” أو Chilling Effect، أي التأثير النفسي الردعي الذي يدفع الأفراد إلى الامتناع عن ممارسة حقوقهم خوفًا من العقاب.
بالتالي، فإن مقاربة التنميط الأمني لا تُنتج استقرارا، بل تُضعف ثقة المواطنين في المؤسسات، وتُفاقم الشعور بالتهميش، بدل الانخراط السلمي في الشأن العام.
إن دولة الحق لا تُقاس فقط بنصوص الدستور، بل بالممارسات اليومية التي تترجم هذه النصوص. وأي استعمال للسلطة خارج حدود القانون، أو مبني على معايير تمييزية، يقوّض أسس التعاقد الديمقراطي بين المواطن والدولة. وبالتالي، فإن مواجهة هذه الممارسات لا تتطلب فقط إصلاحا قانونيا، بل إعادة تعريف لوظيفة الأمن نفسها، باعتبارها وظيفة لحماية الحقوق لا لتقييدها، ولضمان السلامة القانونية لا لتوسيع هامش الاشتباه.
وإذا كان الشباب المغربي اليوم يعبر عن نفسه بوسائل جديدة، غير تقليدية، تتراوح بين التعبير الرقمي، والاحتجاج الرمزي كشكل من أشكال الخطاب السياسي، فإن ذلك لا يستوجب إقصاءه أو مراقبته، بل يتطلب من الدولة ومؤسساتها تبني مقاربة تقوم على الاعتراف، والإنصات، والتحصين القانوني. فظهور أشكال جديدة من التعبير لا يفترض أن يقابل بالريبة، بل يقرأ كتحول طبيعي في علاقة الأجيال مع الفضاء العام، ومؤشر على رغبة في الانخراط والمشاركة، ولو عبر قنوات مغايرة للسائد. إن تحصين هذا الحق في التعبير، والاحتجاج، والاختلاف، ليس ترفا، بل ركيزة من ركائز أي تعاقد ديمقراطي سليم. لأن الديمقراطية، في جوهرها، ليست فقط حكم الأغلبية، بل حماية جميع الحقوق، وضمان ألا يكون لأي شخص، أيا كان مظهره أو خلفيته أو وسيلة تعبيره، سبب للخوف من صوته أو حضوره في الفضاء العام.