story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

من القصر إلى الزنزانة

ص ص

لا أدري هل أصابتنا كثرة التعرض للمشاهد الصادمة والمتناقضة بتبلّد الأحاسيس، لكن المشهد الذي دار أمس الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 في شوارع باريس، لرئيس فرنسي سابق يسير على قدميه نحو زنزانة لا تتجاوز مساحتها بضع عشرة أمتار مربّعة، لا يمكن أن يكون مجرد لقطة عابرة في نشرات الأخبار.

في ذلك الشقّ الرمزي لتأرجح مشاعر الفرنسيين بين حنينهم القديم إلى هيبة الأباطرة، وإرث ثورتهم الغيور على سيادة الشعب، تكمن قوة اللحظة وضعفها معا.

هذا عن الفرنسيين، أما نحن فنقف أمام سابقة كاملة المعنى: أوّل رئيس سابق يُسجَن على الهواء مباشرة، في تاريخ الجمهورية الخامسة.

نيكولا ساركوزي، المحكوم بخمس سنوات سجنا نافذا في ملف التمويل الليبي لحملته الرئاسية لسنة 2007، يدخل سجن “لا سانتي” (الصحة) ويخضع نظام العزل، تحت حراسة استثنائية يوفّرها ضابطان من أمن الدولة، سيُوجد أحدهما في زنزانة مجاورة على مدار الساعة.

إنه سجين “غير عادي” لأسباب أمنية، هذا صحيح؛ لكنّه حسب القانون، محكوم مثل غيره، وقد قُبل استئنافه ويبقى افتراض براءته قائما إلى أن تقول محكمة الاستئناف كلمتها.

قد يغادر ساركوزي الزنزانة قبل أعياد الميلاد، وقد يمكث أسابيع أطول؛ المهم أن باب السجن أُغلق خلفه باسم قاعدة عامة لا باسم استثناء لصاحب مقام.

هذه اللحظة تقول ثلاث حقائق ينبغي تثبيتها قبل الانزلاق إلى ضجيج الاستقطاب بين مؤيدي ساركوزي وخصومه السياسيين:

أولا: مبدأ المساواة أمام القانون لا يُقاس بالدموع المذروفة في الشارع ولا بعدّاد الإعجابات و”اللايكات” على الشاشات. مئات من أنصاره هتفوا “أطلقوا سراح نيكولا”، وسياسيون نافذون اصطفّوا علنا إلى جانبه، من وزراء حاليين إلى أصدقاء قدامى يقبضون على ذاكرة “العصر الساركوزي”. حتى الرئيس إيمانويل ماكرون استقبله في قصر الإليزيه عشية الإيداع، ووزير العدل أعلن رغبته في زيارته داخل السجن “للاطمئنان على أمنه”، ما استدعى تحذيرا علنيا من أعلى سلطة اتهام في فرنسا بوجوب احترام المسافة مع القضاء. هذه كلها وقائع لا تبطل حكم المحكمة، لكنها تكشف هشاشة الأعراف حين تضغط السياسة على باب العدالة.

ثانيا: النزاع الجاري ليس على نيكولا “الإنسان” بقدر ما هو على معنى حكم القانون نفسه. جزء معتبر من الإعلام اليميني صوّر المشهد بوصفه “استبدادا” قضائيا، فيما صحف أخرى، من الضفة المقابلة، ذكّرت بأنّ من سجّلته الكاميرات يوم أمس ليس “كبش فداء”، بل مُدان بجريمة “تكوين عصابة إجرامية بغرض ارتكاب جرائم فساد وتمويل غير مشروع”، وأنّ الإيداع مع التنفيذ المؤقت إجراء معمول به في حالات تُقدّر فيها المحكمة “خطورة الأفعال الاستثنائية”. وبين خطاب المظلومية وعبارات التشفّي، تضيع الجرعة المفيدة: حقّ المتهم في الاستئناف، واستقلال القضاة عن ضغط الشارع وعن أريحية الصالونات السياسية.

ثالثا: التحقيقات الصحفية، مهما اختلف الناس حول منابرها، أثبتت مرّة أخرى أنّها قد تفتح الباب لمسارات قضائية طويلة ومعقّدة تنتهي بأحكام نافذة. لسنا أمام حكم وُلد في ليلة عاصفة، بل أمام عقد من التحقيقات والإجراءات والمرافعات، وتراكم ملفات أُدين فيها ساركوزي سابقا، مع عقوبة نفّذها تحت المراقبة الإلكترونية. لذلك، تبدو محاولة “أسطرة” الرجل، بتصويب الانتباه نحو كتبه التي حملها معه إلى الزنزانة، من “كونت مونتي كريستو” إلى سيرة المسيح، وبمواكب المديح التي تصفه “بالضحية التاريخية”، مجرّد غبار شعوريّ يُخفي وقائع قانونية صلبة.

تُعيد القضية، في العمق، إلى الواجهة سؤالين قديمين-جديدين في الديمقراطيات المعاصرة:

السؤال الأوّل: إلى أيّ حدّ تستطيع الأنظمة الرئاسية القوية أن تمنع انزلاق رأس السلطة إلى استعمالات رمادية لشبكات النفوذ والمال السياسي، ثمّ تُحاسبه بلا خوف ولا محاباة حين يغادر المنصب؟ فرنسا تُغامر اليوم بالإجابة أمام العالم: نعم، يمكن أن يدخل “الإمبراطور الصغير”، كما كان يُشبّه ساركوزي في لحظات مجده، من باب حديديّ يمرّ منه الناس العاديون. هذه رسالة تساوي كتبا في التربية المدنية.

السؤال الثاني: كيف تُصون الجمهورية استقلال عدالتها أمام حشد سياسيّ وإعلاميّ يريد تحويل كلّ ملفّ قضائي إلى استفتاء شعبيّ حول “حبّ” الزعيم أو “كرهِه”؟ جزء من التغطيات التلفزيونية تحوّل، بالفعل، إلى منصة لإنكار الوقائع أو ترويج أرقام عن “تأييد كاسح” للرجل، بينما أظهرت استطلاعات معتبرة أنّ غالبية الفرنسيين ترى التنفيذ المؤقت للحكم “عادلا”. هنا يُمتحَن ذكاء الجمهور وقدرة الصحافة على الفرز، وتُختبر المناعة الديمقراطية ضدّ تحويل الحقائق إلى انفعالات.

لا ملائكة في مجتمعات تحترم نفسها، ولا شياطين أيضا. قد يخرج ساركوزي بعد أسابيع بقرار قضائيّ، وقد يظلّ خلف الباب الحديدي فترة أطول. وفي الحالتين، ليس الامتحان في مصيره الشخصي بل في صلابة المبدأ، أي ألّا يُستثنى أحد من سلطة القانون، وألّا يتسرّب “حنين امبراطوري” إلى غرفِ القرار ليتدخّل في عمل القضاة. إنّ زيارة وزير العدل لسجين بعينه، أيّا كان اسمه، ليست مجرّد التفاتة إنسانية؛ هي اختبار دقيق لحدود السلطة التنفيذية ولحُرمة المسافة مع القضاء. واستقبال رئيس الدولة لمدان على أبواب السجن ليس خطيئة بذاتها، لكنه يربك الرموز حين تحتاج المؤسسات إلى صمت رصين.

من زاوية أوسع وأبعد، يُذكّرنا المشهد أيضا بحقيقة بسيطة نميل إلى إنكارها في منطقتنا: الدولة الحديثة لا تُقاس بتكلفة السجون، بل بقدرتها على سجن الأقوياء حين تُدينهم المحاكم. ليس لأنّ وراء القضبان عدوا سياسيا أو “كبش فداء”، بل لأنّ منظومة كاملة، من الصحافة الاستقصائية إلى النيابة العامة، ومن قضاة التحقيق إلى دوائر الحكم والطعون، عملت وفق قواعد تُخطئ وتُصيب، لكنها تشتغل داخل إطار معلوم، وتقبل المراجعة والرقابة.

والدرس البسيط الذي تقتات عليه الديمقراطيات يقول: لا أحد أكبر من القانون، ولا أحد أصغر من العدالة. ما عدا ذلك تفاصيل ستذروها الرياح.