منتدى السوسيولوجيا.. قراءة في شعار الفعالية وموقع غزة من نقاش “الأنثروبوسين”

“معرفة العدالة في عصر الأنثروبوسين”. بهذا الشعار تتواصل فعاليات المنتدى العالمي الخامس لعلم الاجتماع لليوم الثالث على التوالي، في جامعة محمد الخامس بالرباط، حيث تُناقش “مواضيع بالغة الأهمية”، بحسب المنظمين، تتمحور أبرزها حول دور العلوم الاجتماعية في مواجهة الأزمات العالمية، وأصوات الجنوب في النقاشات الدولية.
في هذا السياق، نتوقف عند مصطلح “الأنثروبوسين” لتعريف القارئ به، وتقديم قراءة في شعار هذه الفعالية الدولية، التي انطلقت يوم الأحد 6 يوليوز 2025، وسط احتجاجات غاضبة على مشاركة أكاديميين من جامعات إسرائيلية، رغم حرب الإبادة الجماعية المتواصلة على غزة، وهو ما يراه أكاديميون مرتبطاً بموضوع المنتدى، خاصة بالنظر إلى ما تُحدثه الحروب من اختلالات في التوازن البيئي على الأرض.
ما هو الأنثروبوسين؟
يشرح أستاذ علم الاجتماع في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة عصام الرجواني مفهوم الأنثروبوسين (Anthropocene)، ويقول في حديث مع صحيفة “صوت المغرب”، إن هذا المفهوم يتعلق بنطاق التحقيب الجيولوجي لتاريخ الأرض، إذ أن علماء الجيولوجيا يقدمون تحقيباً جيولوجياً دقيقاً يقسمون من خلاله تاريخ الأرض إلى دهور وحقب وفترات وعصور.
ويوضح الرجواني أن هذه التقسيمات تحدد “وفق التحولات الكبرى التي يشهدها المناخ وتشكل القارات وظهور الكائنات الحية أو انقراضها”، مشيراً إلى أنه تم اقتراح مفهوم الأنثروبوسين للإشارة إلى عصر جيولوجي جديد.
وكان عالم الكيماء الهولندي بول كروتوزن هو من اقترح هذا المفهوم بداية الألفية الحالية، “وذلك للإشارة إلى التأثير غير المسبوق للبشر على النظام البيئي والجيولوجي”، وفقاً للرجواني. ويرى أستاذ علم الاجتماع أن النشاط البشري “صار بمثابة قوة جيولوجية قادرة على تغيير ملامح كوكب الأرض بشكل جذري على مستوى المناخ والتنوع البيولوجي والتربة والمحيطات والغلاف الجوي”.
وأشار الرجواني إلى أن الحديث عن تسمية عصر جيولوجي جديدة “لا تحظى بالإجماع حالياً”، كما أنها “لم تتخذ طابعاً رسمياً بعد في الأوساط العلمية”، إذ أن الاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجي وهو الهيئة المعنية بوضع معايير صارمة للتحقيب الجيولوجي “لم تعتمد هذه التسمية بعد، حتى أن اللجنة الدولية للطبقات الجيولوجية داخل الاتحاد رفضت بشكل رسمي اعتماد الأنثروبوسين بوصفه عصر جيولوجي مستقل وذلك في مارس 2024”.
واعتبرت اللجنة المذكورة أن الأدلة المقدمة غير كافية، “وعليه فإننا رسمياً لا نزال في عصر الهولوسين”، يضيف الرجواني، مشيراً إلى أن هذا الأخير “بدأ قبل حوالي 11 ألف سنة، ويتميز باستقرار مناخي نسبي مكن من نشوء الحضارات الزراعية وتطور المجتمعات الإنسانية”.
وفي هذا السياق يقدم العلماء الذي تبنوا فكرة عصر جيولوجي جديد تحت اسم الأنثروبوسين عدداً من الخصائص لهذا العصر من قبيل التغير المناخي المتسارع، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث البلاستيكي العالمي والأنشطة الصناعية المكثفة، فضلاً عن التحول الكبير في استخدام الأرض، بحسب المتحدث ذاته.
كما أنهم يقترحون ثلاث لحظات مرجعية بوصفها فرضيات على انطلاق هذا العصر الجديد “وهي بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وانفجار أول قنبلة نووية في منتصف القرن الماضي، ثم الثورة الزراعية القديمة”.
العدالة في “الأنثروبوسين”
ويحظى استخدام مفهوم الأنثروبوسين بشعبية واسعة اليوم خاصة في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية والدراسات البيئية، إلى جانب اعتباره مقولة تحليلية “يتم الدعوة من خلالها إلى إعادة التفكير في علاقة الإنسان بالطبيعة، ومسؤوليته عن التغيرات البيئية التي قد تقود إلى أزمات وجودية”. وعو ما اعتبره عصام الرجواني “مفهوماً معرفياً وسياسياً أكثر منه تصنيفاً جيولوجياً رسمياً”.
أما عن موقع العدالة من مفهوم الأنثروبوسين كما جاء في شعار المنتدى العالمي الخامس لعلم الاجتماع، يشير أستاذ علم الاجتماع في جامعة ابن طفيل إلى أنه يتم استدعاء هذا المفهوم “للانفتاح على أسئلة ذات طابع فلسفي وأخلاقي وسياسي”، إذ أن الإنسان “لم يعد فقط كائناً يعيش فوق سطح الأرض، بل صار قوة جيولوجية تغير بنية الأرض بشكل جذري”.
هذا التحول فتح المجال أمام أزمات وجودية كبرى، “تحاول اليوم العلوم الإنسانية والاجتماعية مقاربته من خلال سؤال العدالة، لا بمعناها القانوني الصرف، بل من خلال فهم أشمل يتجاوز القانون نحو مساءلة أشكال الهيمنة المعرفية والبيئية”، بحسب المتحدث.
ويرى الرجواني أن العدالة تطرح، في هذا السياق، أسئلة من قبيل من يتحمل تكلفة هذه الأزمات؟ ومن يملك سلطة تعريف الإنصاف؟ وكيف تفرض معرفة معينة بينما يتم تهميش معارف أخرى؟ وأي ضمانات لدينا اليوم لإرساء عدالة حقيقية في توزيع الموارد الحيوية مثل الماء والطاقة؟
بل ويتوسع السؤال، يضيف الرجواني “ليشمل العدالة بين الأجيال، وبين الإنسان والكائنات الأخرى”، مشيراً إلى أن مفهوم الأنثروبوسين لحظة فارقة في مفهوم العدالة نفسها بوصفها أفقاً كونياً مشتركاً، على حد تعبيره.
غزة في نقاش “الأنثروبوسين”
ويستحضر أستاذ علم الاجتماع عصام الرجواني حرب الإبادة الجارية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، معتبراً في هذا السياق أن الشعار الذي رفعه المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا “سوف يتجاوز كونه مجرد موضوع أكاديمي بارد، إلى أن يكون نداء أخلاقياً وسياسياً عاجلاً”.
ويرى الرجواني أنه يمكن إعادة قراءة الشعار، في ظل الإبادة الجارية والقصف العشوائي المتواصل والتهجير والتجويع الممنهج لسكان قطاع غزة، من منظور مختلف من خلال طرح أسئلة: أين العدالة في توزيع الحق في الحياة والموارد؟ من يملك سلطة المعرفة لتسود سرديته؟ ومن يُمنع من رواية معاناته؟ ولماذا يتم تغييب صوت الضحايا ليظل مجهولاً وغير موثوق، بينما يتم إفساح المجال للمستعمر والمستوطن باسم الموضوعية والحياد؟
ومن الأسئلة التي يطرحها المتحدث أيضاً “هل يمكن الحديث عن عدالة بيئية ممكنة في زمن الإبادة، حيث يباد البشر والحجر والشجر؟”.
ويشدد أستاذ علم الاجتماع على أن استحضار الحرب على غزة كفيل في تقديره بأن ينقل مفهوم الأنثروبوسين “إلى مستوى الاشتباك الجذري مع جينات التوحش الكامنة في بنية النظام العالمي برمته”، لأن تملك التكنولوجيا واستخداماتها، في رأي الرجواني “لم تعد فقط محصورة في رغبة الإنسان في السيطرة على الطبيعة وتسخيرها، بل تجاوز الأمر إلى محاولة إبادة الإنسان نفسه”.
وبهذا يكون استحضار معاناة شعب غزة في قلب النقاش حول “معرفة العدالة في عصر الأنثروبوسين” هو دعوة لإدماج النضال والمقاومة الفلسطينية في قلب النقاش العالمي حول العدالة بمعناها الكوني. وعتبة ذلك، وفقاً للرجواني هو “التمكين لسردية المستضعفين والاعتراف بجرائم الاستعمار، وربط النضال من أجل الأرض والبيئة بالنضال من أجل الاستقلال والكرامة والحرية”.