ملتمس الرقابة.. المصلحة العامة أم المصلحة الحزبية؟

لم يُقدَّم ملتمس الرقابة ضد حكومة عزيز أخنوش في نهاية المطاف، لكن “عدم التقديم” في حد ذاته أصبح حدثًا سياسياً كاشفًا: كاشفا أولا لحدود المعارضة بما هي كيانات حزبية، وثانيا لمدى خواء الخطاب السياسي. ليتحول، في المحصلة، ملتمس الرقابة من أداة دستورية ثقيلة يفترض أن تُفعّل لحماية الديمقراطية، إلى مجرد ورقة انتخابية ظرفية، لا تراكم فعلًا ديمقراطيًا، ولا تهدد فعليًا توازن السلطة التنفيذية.
وفي قلب هذا الحدث السياسي الكاشف، تعود إلى الواجهة إشكالية جوهرية طالما ظلت مطروحة في التجربة السياسية المغربية: هل يمثل النائب البرلماني الأمة كما ينص على ذلك الفصل 60 من الدستور المغربي حين يقول صراحة “البرلمان يتكون من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين: ويستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة، وحقهم في التصويت لا يمكن تفويضه..”؟، أم أنه مجرد منفّذ لتعليمات حزبه، يسعى خلف مصالح تنظيمه الضيقة تحت قبة البرلمان؟ هذا السؤال لم يعد نظريًا، بل أصبح واقعًا ملحًّا، في ظل مشهد سياسي مرتبك، ومعارضة مشرذمة، وفضائح تُقوّض ما تبقى من الثقة العامة.
واللافت أن القضية التي كانت ستشكّل أساس ملتمس الرقابة، تتعلق بإحدى أخطر فضائح التدبير العمومي في السنوات الأخيرة: ملف دعم قطيع الماشية، الذي طرحت بشأنه شبهات جدية تتعلق بتبديد المال العام والتلاعب في الصفقات، وأثار تساؤلات مشروعة حول النجاعة والمراقبة والمحاسبة. والمفارقة أن أول من فجّر هذا الملف لم تكن المعارضة، بل وزراء من داخل الحكومة نفسها.
وهكذا، وجد البرلمان نفسه –أغلبية ومعارضة– أمام فرصة حقيقية لممارسة دوره الدستوري في الرقابة باسم الشعب. لكن ما حدث كان العكس تمامًا: بدل أن يتوحد النواب معارضة وأغلبية حول مصلحة الوطن، غرقوا في حسابات صغيرة، وانقلبت الآلية الدستورية إلى ساحة لتصفية الحسابات الحزبية.
فقد فشل كل من إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومحمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، في التوافق على قيادة مبادرة الملتمس، وتنازعا حول من “يتسيّدها”، في مشهد يكشف أن الاعتبار الحزبي طغى على المصلحة العامة، وسط اتهامات من حلفائهما في المعارضة بإفشال المبادرة ومحاولات للهيمنة الحزبية عليها، ما أفرغ المبادرة من مضمونها وأجهضها قبل أن تولد.
وهنا تعود بنا الإشكالية إلى عمقها: هل النائب ممثل للأمة كما ينص الفصل 60 من الدستور؟ أم أنه مجرد وكيل سياسي لحزبه، ينفذ أجندته ويخدم مصالحه؟
هذا السؤال لا يجب أن يبقى معلّقًا، خاصة في ظل سياق سياسي يزداد هشاشة، ومجتمع يفقد ثقته في المؤسسات. لأن تمثيل الأمة يقتضي التحرك باسم الشعب، والحرص على مصلحته ومصلحة الوطن، لا باسم الأجهزة الحزبية؛ ويقتضي مساءلة الحكومة عندما تَخون الثقة وتغرق في شبهات النهب والفساد وسوء التدبير، لا التلكؤ والتراجع بسبب صراعات الزعامة أو “حسابات الدقيقة التسعين”.
رغم توفر الظروف السياسية والمبررات الموضوعية، ما يمثل ليس فقط تقاعسًا عن أداء الواجب الدستوري، بل خيانة تعطل أي منحى نحو التفعيل السليم للدستور ولإحقاق الفعلي للاختيار الديمقراطي، ما يجعلنا أمام ليس فقط إخلالا بالواجب وإنما خيانة للوطن وللثقة التي منحها الشعب لممثليه داخل البرلمان، لأجل رعاية مصالحها والحرص على حقوقها، وهو ما سبق لرئيس الدولة أن عبر عنه في خطاب العرش لسنة 2017 حين قال :”عندما يقوم مسؤول بتوقيف أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي، لحسابات سياسية أو شخصية، فهذا ليس فقط إخلالا بالواجب، وإنما هو خيانة، لأنه يضر بمصالح المواطنين، ويحرمهم من حقوقهم المشروعة”.
وبهذا المنطق وباستحضار المصلحة العامة، كان الأجدر بالسادة البرلمانيين التوقيع على ملتمس الرقابة بصفتهم ممثلي الأمة لابانتماءاتهم الحزبية، خاصة لما أبدى البرلمانيون عن المعارضة موافقتهم واستعدادهم لتقديم الملتمس قبل أن تطفو المصلحة الحزبية الضيقة. والنتيجة النهائية كانت فشلاً مزدوجًا: لم تُحرج الحكومة، ولم تخرج المعارضة قوية، بل ظهر الطرفان معًا وكأنهما يلهثان وراء تموقعات داخلية وانتخابية. أكثر من حرصهما على مساءلة السلطة التنفيذية أو حماية المال العام، والمؤسف أن هذا الفشل لم يكن مفروضًا من الخارج، بل كان ذاتيًا تمامًا: معارضة ضعيفة، نخبة سياسية مترهلة، وسياق مؤسساتي مختل.
لقد أبان هذا الملتمس، في صورته الأخيرة، عن مأزق مزدوج: أغلبية حكومية بدأ يتصدع تحالفها وتضامنها وتتهرب من المساءلة كما تتملص أحزابها من المسؤولية، ومعارضة عاجزة عن المعارضة. وبينهما، رأي عام يزداد وعيًا ويزداد قناعة بأن الصراع داخل البرلمان لم يعد بين مشاريع، بل بين طموحات شخصية، وأجهزة حزبية تفتقر إلى حس الدولة. وكل هذا أعراض لمرض ضعف الديموقراطية وغياب مشاريع حزبية حقيقية قادرة على تعبئة الموارد البشرية والسياسية في عرض سياسي يراد منه تحقيق المصالح العامة والفرجة الجماهيرية.
ملاحظة لها علاقة:
حين يُطرح سؤال النيابة البرلمانية، أهي عن الأمة أم عن التنظيم الحزبي، فإن الغرض ليس الطعن في دور الأحزاب أو تقويض مشروعها المؤسساتي، الذي أنهكته أصلاً تحولات سياسية وتاريخية معقدة، الكل يعرفها، ولكن الغاية هي التذكير بأن السياسة، في سياقات بعينها، تقتضي الارتقاء فوق الحسابات الحزبية الضيقة، والانتصار للمصلحة العامة حين يتعلق الأمر بحقوق المواطنين ومصالحهم.
لا أحد ينكر أهمية الالتزام الحزبي، بل هو مطلوب كما هو مطلوب أن تتبارز الأحزاب عن مشاريعها وتتعاقد مع المواطنين على أساسها، لكنه- الالتزام الحزبي- يفقد معناه حين يُستعمل لتعطيل آليات الرقابة أو لحماية الفساد وسوء التدبير. فالأحزاب القوية لا تُقاس فقط بمدى انضباط أعضائها، بل أيضاً بقدرتها على إنتاج نخب تضع الوطن فوق كل اعتبار، وتُمارس السياسة كواجب ومسؤولية، لا كصفقة أو حساب انتخابي.
*هدى سحلي