مغرب كأس العالم مهدد بصديقنا ” الهركاوي!”

مصطلح الهركاوي لم يعد مجرد لفظ دارج في النقاشات اليومية، بل صار يحمل حمولة إعلامية واجتماعية تعكس غياب السلوك المدني المتحضر ،و بدل أن يبقى سبّة أو تجريحًا، تحول اليوم إلى توصيف لواقع ملموس تعيشه العديد من المدن المغربية التي تعاني من اختلالات سلوكية وحضارية متكررة، ولا ينكر أحد فضل الفنان حسن الفد في إشهار المصطلح وإثارة النقاش حوله، وما يعبر عنه من معضلة اجتماعية تستدعي الانتباه والتحليل.
ليست غايتي في هذا المقال أن اقدم تأصيلا نظريا لهذا المفهوم و لا أن أحكي قصة من قصص الشارع المغربي، فالمغاربة جميعًا خبروا مثلها وربما يجيدون حكيها أكثر مني. قصتي هنا مجرد مثال، والغاية هي الإشارة إلى عقليات ما تزال تتحكم في سلوكنا اليومي، عقليات لا علاقة لها بالقانون ولا بالمدنية، و أن نحلل جدور هذه العقلية، و نحن في السياق و التوقيت المناسب لذلك في مغربنا، لأننا مقبلون على مناسبات قد تكشف مصائبنا أمام العالم دون ان ننتبه، و منها : أن ننظم كأس العالم في ملاعب مبهرة تشبه تلك التي نشاهدها في أوروبا و أفضل، لكن بعقلية هؤلاء المتخلفين “تجاوزًا المواطنين”: كيف سيكون شكل “العيش المشترك” المقدم أمام العالم على أنه المملكة المغربية و المغاربة؟ وكيف سنظهر أمام العالم؟
القصة المثال بدأت حين أوقفت سيارتي بشكل عادي، في يوم عادي، في شارع عام عادي أيضا، لا يحمل أي علامة منع. فجأة، خرج صاحب المنزل الذي يتقابل مع الرصيف ليطلب مني – وبالفرنسية – أن أزيل سيارتي لأنها تقف “قدام داره”. سألته بهدوء عن القانون الذي يمنعني من ركن سيارتي في فضاء عمومي (شارع و رصيف قامت بتهيئته الدولة المغربية و تضع رهن إشارة كل مواطنيها و زائريها ). أؤدي عنه ضريبة كما يفعل الجميع. لم يجد صاحبنا “الهركاوي مول الشانطي” جوابا سوى جملة أسطورية تعود لزمن ما قبل الانتقال الديمقراطي و الانصاف و المصالحة، خصوصا باللحن الذي قالها صاحبنا : “غادي نعيط للقايد وغادي تشوف “.
قانونًا، الفضاء العام ملك جماعي للمجتمع، تنظمه الدولة لتأمين حق الاستعمال المتساوي بين المواطنين. لكن في المخيال الشعبي عند بعض الناس، الشارع ليس ملكًا عامًا، بل امتداد طبيعي للسكن، تمامًا كما يتحول الرصيف إلى “باركينغ خاص” والممر إلى “حديقة شخصية”. هذا ما يمكن أن نسميه “عقلية الاستحواذ على المشترك”.
المضحك أن هذا الرجل عاش سنوات في فرنسا، وهي المعلومة التي قالها لي من باب تبرير سلوكه، او لربما ليدهشني وأقول له ” اه ما دمت عشت في فرنسا و تتحدث الفرنسية اذن انت محق «، منطق وأسلوب استعماري، لم ألحظ له مثيل الا في كتابات أدب الرحلات الاستعماري، حيث كتب هؤلاء ما يجعل القارئ يتخيل الاستعمار حضارة و المغرب همج.
على حد علمي في فرنسا و هي ليست نموذجا للنظام، لا أحد يجرؤ أن يحتكر الشارع ولا أن يستدعي “القائد” ليطرد سيارة من أمام منزله، لكن صديقنا الهركاوي يعتقد ان زيارته لفرنسا تجعله مواطنا مشرعا، لسانه الفرنسي لم يمنعني في ظرف خمس دقائق من كشف حقيقة عقله “الهركاوي” التقليدي ، و هو ما جعلني انطق بلسان ساخر و بشيى من التفلسف ” ها هو الجديد “الهركاوي الفرونكوفوني”.
ما حدث ليس مجرد مشكل باركينغ، إنه تجلٍّ لعقلية أوسع: السلطوية المتجذرة في المجتمع قبل الدولة، فقبل أن تتجسد السلطوية في قرارات السلطة، نجدها حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية: جار يحتكر الشارع، صاحب مقهى يغزو الرصيف بكراسيه، بائع يقطع الطريق بعربته، وكل هؤلاء مستعدون لاستدعاء “القايد” أو “المقدم” لفرض منطقهم.
هكذا يُعاد إنتاج الاستبداد يوميًا، ليس في البرلمان ولا في دهاليز الدولة فقط، بل في عقول الأفراد الذين لم يتشربوا بعد معنى المدنية. فالمدنية ليست عمارات شاهقة ولا ملاعب عصرية، بل وعي بأن العيش المشترك يقوم على احترام الفضاء العام باعتباره ملكًا للجميع، وبأن “القانون” أسمى من “المعرفة و باك صاحبي ” و ” ومنطق “القايد”.
ما لم نُهذب “الهركاوي الصغير” داخل كل واحد منا، ونقطع مع السلطوية التي نسكنها قبل أن تسكننا، فلن يكون لكأس العالم ولا لأجمل الملاعب معنى، سنظل نعيش في تناقض صارخ: واجهة حديثة، وباطن قديم؛ شوارع مرصوفة، وعقول محاصرة بمنطق الاستبداد.
اعرف ان الحكي يجعل القارئ يتساءل عن النهاية: هل امتثلتُ؟ الحقيقة أنني حولت سيارتي بعيدًا، لكن ليس خوفًا من “القايد” الذي لا يمكن أن يرعب مواطنًا يعرف القانون، ولا امتثالًا لعرف “التهركاوييت” الذي يحتكر الفضاء العام، فعلت ذلك فقط تفاعلًا مع زوجة “صديقنا الهركاوي”، التي أخبرتني أن زوجها مريض بالقلب ومتقدم في السن، و تشبثي بموقفي سيجعله في خطر، و ان كان خطر وفاته أهون من خطر عقليته على مغربنا. ركنت سيارتي بعيدًا التزامًا بمنطق إنساني أعتبره الشيء الوحيد الذي قد يسمو فوق القانون.
شربت اخر رشفة من قهوتي قبل ان اغادر، وفي طريقي تخيلت مشهدا ساخرًا: نُنظم كأس العالم، الملعب ممتلئ عن آخره بالجماهير، وفجأة يقف أحد “الهركاويين الكلاس الفرونكوفونيين” ليصرخ على واحد من الجماهير الأجنبية: “حيد من هنا، هادي بلاصتي ثم يهدد باستدعاء “القائد”، بالصدفة مثلا يلتقط اعلام أجنبي المشهد، ألن يكون ذلك فضيحة أكبر من أي هزيمة كروية؟ ألن تكون فضيحتنا بجلاجل؟.
إن مشروع المغرب الذي نحلم به مشروع انسان قبل العمران، وبشر قبل الحجر، أي على المدى البعيد ألا نعيد الإنتاج، ان يكون لنا مشروع موطن الغذ، ان نجيب عن سؤال أي مغربي نريد؟ وبالتالي أي مغرب نحلم به.