story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

مع إيران ضد إسرائيل

ص ص

في لحظات التاريخ الفارقة، كما هو الحال مع اللحظة الراهنة، لا يُختبر الضمير فقط، بل تختبر معه الحكمة، والقدرة على فرز الدقيق من الغليظ، والمصيري من الهامشي، والمبدئي من الظرفي.

الحرب الكبرى التي انفجرت بين إيران وإسرائيل منذ فجر الجمعة 13 يونيو 2025، ليست شأنا شرقيا معزولا عن يوميات المغربي البسيط، بل هي زلزالٌ يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية لما تبقى من عالمٍ عربي وإسلامي منهك، ويضعنا، نحن المغاربة، أمام امتحان الموقف من جديد: من نساند؟ ولماذا؟ وكيف نقرأ مصلحتنا ونحن نعبر حقل الألغام هذا؟

وفي ظل هذا الغياب المريب للموقف الرسمي، وصمت يكاد يتحوّل إلى إذعانٍ كامل، لا صوت لأحزاب ولا صدى لنخب؛ يُترك المواطن المغربي فريسة لخطابات مذهبية وتضليلية مسمومة، تستحضر الطائفية من رفوف التاريخ لتُلبس بها المواطنة، وتطلب منه أن يختار بين ولاء ديني وولاء قومي، بينما المطلوب ببساطة هو أن يكون إنسانا يفهم من عدوّه الحقيقي.

عدوّنا هو من يقتل الفلسطينيين، لا من يدعمهم. عدوّنا هو من حوّل غزّة إلى مسلخ، لا من يسلّح فصائل المقاومة ويحوّل المعركة من قتال بالحجارة إلى ردّ بالصواريخ. عدونا هو من اخترق سماء طهران واغتال قائدا فلسطينيا لاجئا وآمنا، لا من احتضنه وشيّعه في جنازة شعبية ومهيبة.

إيران ليست ملاكا منزلا، ولا نظامها نموذجا سياسيا يُحتذى، لكنّها اليوم، في هذا الظرف الدقيق، تقف في الجهة الصحيحة من المعركة، ومن هنا وجب الوقوف معها.

نحن لا ننتصر لإيران بما هي دولة شيعية أو نظام ديني مغلق وقامع للحريات، بل بما هي الخصم الحقيقي للمشروع الصهيوني، والفاعل الدولي الوحيد الذي لم يبع فلسطين (حتى الآن على الأقل) مقابل التطبيع أو الضمانات الأمريكية.

إيران هي الدولة التي حوّلت سفارة إسرائيل في طهران إلى سفارة فلسطينية، ورفعت صورة ياسر عرفات في زمن كان فيه الزعماء العرب يراهنون على كسب ودّ تل أبيب.

قد يقال لنا: إيران تدعم البوليساريو. فلنقبل جدلا. هل هذا أشد مما تفعله الجزائر، أو مما فعلته ليبيا معمر القذافي، أو مما تفعله جنوب إفريقيا ونيجيريا؟ وهل كان ذلك مبرر لنقطع معها جميعا العلاقات ونصطف في محور العداء؟

نحن من قرّر مدّ أنبوب الغاز مع نيجيريا التي تعترف إلى اليوم بجمهورية البوليساريو الوهمية، ومن وقّع اتفاقيات مع جنوب إفريقيا، آخر قلاع المشروع الانفصالي في الصحراء إفريقيا، ونحن الذين ندعو الجزائر إلى المصالحة رغم الخناجر المغروسة في الجسد، ونتقرّب يوميا من موريتانيا التي تعترف بجمهورية البوليساريو في أرضنا…

هل يعقل أن نقيم الاحتفالات ونطلق الزغاريد، لمجرّد قيام دول تعترف بصحرائنا كدولة مستقلة، مثل نيجيريا وكينيا (لم تسحب اعترافها رغم دعمها للحكم الذاتي) وجنوب إفريقيا… ونزعم أن إيران عدوّ مطلق لأن أنباء وصلتنا حول دعم عسكري غير واضح للبوليساريو؟

وإذا كان هذا هو المقياس، كيف يعقل أننا نمدّ أيدينا كل يوم للجزائر التي تحتضن وتسلّح وتموّل الانفصال؟ بل كيف نقدّم مقترحا للانفصاليين أنفسهم، بمنحهم حكومة وبرلمانا وقضاء في إطار الحكم الذاتي، ثم نزعم أننا لن “نكلّم” إيران لأنها ربطت علاقة ما معهم؟

قد يُقال إن إيران تنشر التشيّع وتنافس إمارة المؤمنين في إفريقيا. لنُسلّم بذلك مؤقتا. لكن متى كان التبشير وحده سببا للعداء؟ العالم مليء بالمبشّرين، وجل الكنائس الأوربية والأمريكية تمارس التبشير في قلب بلادنا، والمغرب نفسه يحاول يوميا بسط نفوذه الروحي في إفريقيا وأوروبا، فما المشكلة؟

هل كل من نافسنا أصبح عدوا؟ وهل الدعوة إلى القطيعة هي السبيل لصدّ هذا النفوذ، أم الانخراط في سباق التأثير بأدوات أنجع، وأكثر جاذبية، تقوم على نموذج ديمقراطي وتنموي حقيقي، لا على شعارات متهالكة؟

لقد كانت مبررات القطيعة مع إيران، في كل مرة، محكومة بسياقات خليجية، وتحت وصاية غير معلنة، لكن حتى هذا المعطى فقد مفعوله. السعودية التي كنا نتماهى مع موقفها، صافحت طهران، وأبرمت معها الاتفاقيات، وعادت بسفاراتها إلى قلب الجمهورية الإسلامية، وسارعت إلى التنديد بالهجوم عليها.

فلماذا نبقى نحن عالقين في موقع العداء بينما الخصوم ذاتهم يتحاورون ويتصالحون؟

أم أن الأمر يتجاوز الموقف من إيران، ليعكس موقفا مضمرا أكثر خطورة: الخضوع الكامل للإملاءات الإسرائيلية، حتى في قضية واضحة كاغتيال قائد فلسطيني على أرض أجنبية؟

حين يصمت المغرب على جريمة اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، ويبدو وكأنه يغضّ الطرف، فإن ذلك ليس حيادا، بل انحيازٌ ضمني، يخصم من رصيد تاريخي اسمه إمارة المؤمنين، وشرعيتها في الدفاع عن القدس وفلسطين.

يا أبناء هذا الوطن، لا تُخدعوا.

ليس المطلوب منكم أن تحبوا إيران، ولا أن تهتفوا لخامنئي، ولا أن تسلّموا برؤية مذهبية لا تعرفون عنها شيئا. المطلوب فقط أن تحسنوا ترتيب أولوياتكم.

حين تضرب إسرائيل دولة مسلمة وتغتال على أرضها قائدا فلسطينيا، فإن الوقوف مع الدولة المعتدى عليها واجب، بصرف النظر عن نظامها السياسي أو خلافاتها الجانبية معنا.

هذا هو منطق السياسة، وهذا هو منطق الأخلاق.

لا تضعوا كل مشاكلكم في سلّة واحدة.

افصلوا بين التكتيكي والاستراتيجي، بين الغضب من شبهة القرب من الخصوم، أو التنافس الإفريقي، وبين الضرورة الأخلاقية للوقوف إلى جانب من يقاتل إسرائيل.

كل من قاتل هذا الكيان، أو دفع عنه شرّه، أو دعم من يقاتله، له علينا فضل، ولو كنا نختلف معه في شيء آخر، لأنه يصدّ معنا أطماع كيان جامح يسعى لالتهامنا جميعا.

من أراد أن يهزم إيران، فليقدّم بديلا، فليصنع نموذجا مغربيا يفتن العقول ويحرّك القلوب، نموذجا يجمع بين الحريات والتنمية والهوية.

أما أن نصطف ضدّ إيران لأننا لا نحبها، أو لأن إسرائيل لا تحبّها بالأحرى، أو لأنها تختلف معنا في المذهب، ثم لا نقدم شيئا لفلسطين، فذلك خيانة مضاعفة: خيانة للعدالة، وخيانة للقضية، وخيانة لأنفسنا.

الحق لا يُقاس بميزان الحبّ والكره، بل بميزان العدالة.

واليوم، العدالة تقف في صف إيران، ومقاومة غزة، وأطفال الجنوب اللبناني، وكل من يرفع رأسه في وجه آلة الحرب الصهيونية.