معجزة إسطنبول.. نهائي دوري الأبطال بين ليفربول والميلان

مساء الخامس والعشرين من ماي من عام 2005 ، في مدينة ليفربول الإنجليزية كان الوضع كالآتي، المدينة خاوية على عروشها وأشبه ما تكون بمدينة أشباح، الحانات والمطاعم ممتلئة بالمشجعين المرتدين لألوان فريق “الريدز” التقليدية، بينما ساحات مدينة ميلان كانت تعج بالآلاف من المشجعين الذي تجمعوا أمام الشاشات العملاقة التي وضعتها بعض شركات الإشهار لمشاهدة “الروسينيري ” يلعب مباراة نهائية لكأس رابطة الأبطال الأوروبي تعود عليها كثيرا عبر تاريخه الطويل.
أما في المدينة التركية الأسطورية اسطنبول فكان الوضع مختلفًا بعض الشيء، إذ أن أي زائر للمدينة في ذلك اليوم كان ليقول بلا شك أن المدينة وقعت فجأة تحت الاحتلال الإنجليزي، عشرات الآلاف من مشجعي الفريق الإنجليزي يحتلون مساحات المدينة وأزقتها، يغنون بصوت مرتفع، ويرتدون اللون الأحمر، بينما كان عدد مشجعي ميلان الذين قرروا الحضور إلى تركيا قليلًا جدًا مقارنة بالإنجليز.
أما كيف وصل الفريقان إلى المباراة فيكفي أن نقول أن ليفربول قد فاز على كل من تشيلسي ويوفنتوس قبل الوصول إلى المعركة النهائية، بينما فاز ميلان على مانشستر يونايتد الإنجليزي وعلى جاره في المدينة ذاتها، نادي إنتر ميلان.
كل هذا كان قبل المباراة، أما ما حصل فيها فتلك حكاية أخرى تستحق أن تروى عشرات المرات.. فأسوأ ما يمكن أن يحدث لفريق ما هو أن يتلقى هدفًا في الدقائق الأولى من المباراة، لكن ما حدث هنا هو أن ليفربول يتلقى هدفًا بعد خمسين ثانية فقط من بداية المباراة، يلدغه أفضل مدافع في العالم (باولو مالديني) في مقتل.
الأمر أشبه بأن تستيقظ من حلم جميل على صفعة. بالتأكيد لم يكن أحد يتوقع أن تكون المباراة سهلة، أو أن يقدمها الفريق الإيطالي على طبق من ذهب، لكن هدفًا في الدقيقة الأولى كفيل بإجبار الجماهير على أن تصمت، وكفيل بجعل المدرب يستخرج أوراقه الإحتياطية للتعامل مع طوارئ المباراة.
ومع مضي الدقائق، يحاول الفريق الإنجليزي استعادة الروح والعودة في المباراة، فسيدد على مرمى الحارس البرازيلي ديدا مرارًا لكن دون جدوى، حتى الدقيقة التاسعة والثلاثين التي تكررت فيها الصفعة، أو ربما نقول أن الصفعة تتحول إلى طعنة مميتة، إذ يسجل الأرجنتيني هرنان كريسبو هدفًا آخرا، جاعلًا من الليلة كابوسًا على أربعين ألف متفرج إنجليزي سافروا من بلدهم لتشجيع الفريق الأحمر.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى فإن النجم الأرجنتيني يكرر فعلته ويسجلًا هدفًا آخر بعدها بدقائق، الأمر الذي أجبر أحد المعلقين التلفزيونيين على هذه المباراة على القول إن ميلان يلعب كرة قدم ليست من هذا العالم، مرددا بيقين تام “تصبح على خير يا ليفربول”. بعدما انتهى الشوط الأول بفوز ميلان بثلاثة أهداف للا شيء.
وكما حصل الفريقان على استراحة، فلنتوقف هنا قليلًا لنستوعب ما جرى. أسوأ كوابيس أي مشجع لليفربول قد حصل، حالة إحباط عامة تسود المدرجات والبيوت ومقاهي المدينة الإنجليزية، أما في الجزء الآخر من العالم فإن مشجعي الميلان قد استعجلوا فتح نخب الإحتفال بالنصر الذي بدا لهم أنه سيكون بنتيجة عريضة وغير مسبوقة.
وعن تلك اللحظات يقول مشجع إنجليزي: «الأمر أشبه بمشاهدة فيلم رعب بشكل بطيء للغاية، لقد تمت تعريتنا وإهانتنا أمام العالم أجمع».
في غرف الملابس، كان مدرب الريدز الإسباني رافاييل بينيتيز يخاطب اللاعبين محاولًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أنت ستغادر، وفلان سيلعب، علينا أن نفعل كذا وكذا، لكن الحقيقة أن اللاعبين بالكاد كانوا يستمعون إليه، ما زالوا تحت وقع الصدمة، ما زالوا غير متأكدين من أن ما حدث مجرد كابوس جماعي سيستيقظون منه بعد قليل ليجدوا أن المباراة لم تبدأ بعد.
وفي وسط هذا الجو الجنائزي الإنجليزي، خرج من المدرجات صوت يعرفه اللاعبون جيّدًا، آلاف الحناجر تغني بصوت واحد ما بات أشبه بنشيد وطني لأبناء النادي، كان في صوت الجماهير وأدائها لهذه الأغنية أمر مختلف جعل من الأغنية تتحول إلى حقنة منشط تخبر اللاعبين بأنه لا بأس، مهما حصل من أمر فنحن معكم، إن كنا سنخسر فلنخسر سويًا، وإن كان هناك من أمل فلنتحد على إبقائه سويا.
ومع الدقيقة الرابعة والخمسين من عمر المباراة بدا أن زمن المعجزات لم ينته بعد، ترفع الكرة عاليًا باتجاه منطقة جزاء الميلان، ليقفز لها عميد الفريق ونجمه الأول ستيفن جيرارد. ولو أن روائيا كتب هذا السيناريو لاتهمناه بالمبالغة، لكن الواقع كان مصرًّا على أن يكون أغرب من الخيال. يرتقي جيرارد وبرأسية فيها من الحظ بقدر ما فيها من البراعة يضع الكرة في زاوية المرمى معلنًا أن ليفربول لا زال حيّا، صارخًا لن نموت من دون قتال.
يسجل الهدف ويركض مسرعًا نحو دائرة المنتصف ليتم استئناف اللعب، لكن الأهم هو أنه قام بدور القائد كما ينبغي له، أعطى الأمل للاعبين وللجمهور وأصر عليهم أن يستمروا. لو تعامل جيرارد مع هذا الهدف على أنه هدف شرفي أو هدف تعزية لاختلف كل شيء. هو تعامل مع الهدف على أنه مقدمة لما هو أكبر وأفضل، وما أراده كان. إذ أتت ثمرة هذا الهدف هدفًا ثانيًا يسجله اللاعب التشيكوسلوفاكي سميتشر فقط بعد هدف جيرارد بدقيقتين، قبل أن يفكر مدرب ميلان بإجراء أي تعديل حتى. وبعدها بأقل من أربع دقائق، يسقط القائد جيرارد في منطقة الجزاء ليحصل على ضربة جزاء.
عاد المعلق ليصرخ من جديد “نعم المعجزات ممكنة”، بينما يتقدم تشابي ألونسو ليسدد ضربة الجزاء، لماذا لم يسددها جيرارد على اعتبار أنه المتخصص بركلات الجزاء، وفوق هذا هو القائد، لا أحد فهم سبب ذلك حتى بعد مرور كل هذه السنوات.
وعلى الرغم من أن ضربات الجزاء عادة ما يكون للمهاجم فيها الأسبقية إلّا أن ضربة جزاء على الحارس ديدا ذي الطول الفارع والمهارات الخيالية في الصد، ليست بتلك السهولة.. يركض ألونسو نحو الكرة ويسددها ليصدها الحارس العملاق، الزمن الآن بطيء جدًا، وفيلم الرعب يشاهده مشجعو ميلان كما يشاهده مشجعو ليفربول، ما من لاعب في الملعب إلّا وجرى نحو الكرة، لكن ألونسو كان أسبق، فوضعها في سقف المرمى، معلنًا عودة المباراة إلى نقطة البداية.
ست دقائق كانت كفيلة بنقل الكابوس من ليفربول إلى ميلان، وبدا أن الأقدار قد تبتسم للفريق الإنجليزي الذي لم يحصل على أي بطولة دوري منذ العام 1990 ولا على بطولة دوري أبطال أوروبا منذ العام 1984. والمشجعون حول العالم جنّ جنونهم، ومن كانوا قد غادروا الملعب او أطفؤوا التلفاز حزنًا ويأسًا سيندمون طويلًا على تفويت هذه الدقائق.
هل كان ميلان قادرًا على العودة؟ نعم، وجدًا، والدقائق التالية أثبتت قدْر الميلان، إذ سيطر الفريق الإيطالي على المباراة بشكل كامل، وانهالت الكرات على حارس ليفربول كما المطر، لكن الجميع كان يضيع، حتى أتت الدقيقة السابعة عشر بعد المئة، أي قبل ثلاث دقائق من إعلان انتهاء المباراة بالتعادل وانتقال الفريقين إلى الركلات الترجيحية. إذ ترفع الكرة باتجاه منطقة جزاء ليفربول، ويضرب أفضل مهاجم في العالم الكرة فيصدها الحارس، لتعود مجددًا إلى شيفشينكو الذي يسددها في جسد الحارس فتخرج خارج الملعب، حتى هذه اللقطة لم يكن لاعبو ليفربول يصدقون أنهم قد يفوزون بالكأس وكل ما أرادوه هو خسارة مشرفة لكن هذه الفرصة أتاحت لهم الحلم وأباحته، وصدقوا في أنفسهم أنها ليلتهم المجيدة التي سيذكرها التاريخ طويلا.
تصل المباراة إلى الضربات الترجيحية، معنويات الفريق الإنجليزي عالية جدًا، بينما الفريق الإيطالي يصارع حتى لا يصيبه مزيد من الانهيار، وفي المدرجات كان الأمر مختلفًا إذ لا زالت الحناجر الحمراء تغني: لن تسير وحيدًا يا ليفربول.
يتقدم سيرجينيو لاعب ميلان إلى الكرة بينما تسمع في خلفية المشهد حناجر جماهير ليفربول تهتف بذات الأغنية. يمينا ويسارا يتحرك الحارس البولندي جيرزي دوديك للتشويش على المنفذ، يتقدم من الكرة واحد من أفضل مسددي ركلات الترجيح في العالم، وبكل ما في كرة القدم من غرابة يرسل الكرة إلى السماء.
عندما يسدد أندريا بيرلو ضربة خطأ مباشرة، كان يعلم الحارس والجمهور أن احتمال تسجيل الهدف تفوق بكثير احتمال صد الكرة أو مرورها بعيدا عن المرمى، ويزداد هذا اليقين كان بيرلو يسدد ضربة جزاء، لكن كما حصل مع سيرجينيو، يضيع بيرلو ضربة الجزاء، فيما يتمكن كل من هامان وسيسي لاعبا ليفربول من تسجيل ضرباتهما.
يتقدم للضربة الثالثة لميلان اللاعب الدنماركي تومسون، ويسجلها، بينما يضيع ريزا لاعب ليفربول كرته، وهذا يعني أن الفارق بين الفريقين قد تقلص، وأن كرة القدم تمارس هواية العبث بالأعصاب كما تشاء.
يتقدم البرازيلي كاكا من الكرة ويسجل، وكذلك يفعل سميتشر، وهذا معناه أن الركلة الخامسة والأخيرة هي التي ستحدد كل شيء، إن سجّل شيفشينكو فإن آمال ميلان ستظل حيّة، وإن صدها دوديك فإننا سنقول لميلان تصبحون على خير.
يتقدم شيفشينكو ويسدد الكرة في المنتصف، بينما جسد دوديك في الهواء مرتميا نحو زاويته اليمين، لكن الحظ، أو المهارة، أو كلا الأمرين مكناه من اعتراض الكرة برجله وصدها، ليعلن بذلك ليفربول فائزًا ببطولة دوري أبطال أوروبا.
مع فوزهم بالكأس للمرة الخامسة، بات بإمكان النادي الإنجليزي أخيرًا أن ينال الكأس الأغلى في عالم أندية كرة القدم. لتثبت مجددا أن كرة القدم لا تعرف المستحيل، وأنها لا تعترف بشيء إسمه.. نهاية زمن المعجزات.