مصطفى التراب.. حفيد شيخ الإسلام وفوسفاطي العهد الجديد

عاد اسم مصطفى التراب، المدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط، ليتصدّر عناوين الأخبار في هذا الأسبوع الأول من شهر ماي 2025، ليس ارتباطا بأرقام الإنتاج ورقم المعاملات والمنافسة في الأسواق الدولية، بل كرجل باتت رأسه مطلوبة في سياق صراع أجنحة الدولة، حيث استهدفته حملة إعلامية منسّقة قادتها منابر إعلامية مقرّبة من جهات نافذة.
لا يعني ذلك أن الرجل منزّه عن النقد والمؤاخذة، بل يكفي أنه أحد أكثر المعمّرين في مناصب المسؤولية في عهد الملك محمد السادس، وصاحب مفاتيح واحدة من أكثر المؤسسات حساسية وحيوية بالنسبة للاقتصاد المغربي.
فمن يكون مصطفى التراب؟
سابقة 2011
“لقد انتقل إلى مراكش في اليوم الذي استدعي إليها عباس الفاسي على عجل من قطر”، “لقد جمع وثائقه وملفاته من المكتب الشريف للفوسفاط وينتظر قرار التعيين وزيرا أول”، “إنه يستعد لخوض مشاورات تعيين وزراء حكومته المصغّر المكلّفة بالإعداد لانتخابات 2012″… تلك بعض من العبارات التي تناقلتها الألسن والهواتف والرسائل الإلكترونية، منذ اليوم الذي أعقب 20 فبراير، جاعلة من مصطفى التراب، المدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط، وزيرا أولا خلفا للاستقلالي عباس الفاسي.
“لا إنه لن يكون وزيرا أولا، بل سيتم تعيينه في الديوان الملكي، والأرجح انه سيخلف منير الماجيدي في إدارة الكتابة الخاصة للملك” يردّ الاستقلاليون في الكواليس كما لو يدافعون عن قلعتهم.
مقرّبون من دائرة القرار، كانوا حينها قد بدأوا مسابقة التخمينات حول المسؤولية الجديدة التي كان يُفترض أنها ستُسند لهذا الخبير الاقتصادي، بعد تسرّب أنباء عن الشروع في إعداده لمهمة جديدة.
بين مراهن على جلوسه في ذات المقعد الذي كان يشغله الراحل مزيان بلفقيه، كمستشار من العيار الثقيل للملك، مستندين في ذلك على تقاطع الرجلين في مسار التكوين، خاصة مرورهما من مدرسة القناطر والطرق وتخصّصهما في مشاريع الأوراش الكبرى؛ وآخرون وضعوا الرجل في موقع سياسي وجعلوه وزيرا أولا لحكومة 2012، مبرّرين ذلك بحاجة القائمين على المملكة، لرجل بكاريزمة وخبرة وكفاءة تشبه تلك التي كان يتحلى به رجل اسمه إدريس جطو، وإقران العمل السياسي بالفعالية والقدرة على الإنجاز. بالإضافة إلى افتقاد المشهد السياسي الحزبي لرموز وقيادات وازنة وقادرة على التعبئة وتحقيق الإجماع حولها والإقناع بقدرتها على التطوير والإتيان بالجديد، بفعل شيخوخة وترهّل البعض، وعدم إفراز المشهد السياسي لقيادات جديدة قادرة على حمل المشعل.
وكما لو أن السيناريو نفسه يتكرّر اليوم، حيث عادت أنباء إزاحة التراب من إدارة مكتب الفوسفاط لتُطرح في سياق يتّسم بالحديث عن البروفايل المناسب لخلافة عزيز أخنوش على رأي الحكومة العام المقبل.
منذ فبراير 2006
شروط موضوعية وأخرى ذاتية يبدو انها تفرّقت لتجتمع في هذا الجالس على عرش الفوسفاط المغربي. مسار طويل يجره هذا الرجل خلفه بين الداخل والخارج في تجارب تفرقها التخصصات والمواقع الجغرافية، حيث عمل في مجالات الاتصالات والمطارات والهندسة الكهربائية متنقلا عبر مناطق عديدة من العالم، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن بداية مشواره في قيادة أكبر مؤسسة عمومية تدير أكبر ثورة وطنية في المملكة، كانت بفضل غضبة ملكية أطاحت بالمدير العام السابق مراد الشريف.
فعوامل كثيرة عجّلت بإيفاد مبعوثين من نوع خاص إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هناك حيث كان دماغ مغربي في خدمة أحدى كبرى المؤسسات المالية الدولية، كرئيس لاختصاصيي التنظيم في البنك الدولي تحديدا. فنجح المبعوثون في إقناع مصطفى التراب بإنهاء مرحلة “المنفى” الاختياري الذي عاشه بعد خروجه من موقع المسؤولية سنة 2002، حين غضب من عدم مواصلة مسار تحرير قطاع الاتصالات كما رسمه في بداية الأمر، فعاد وقبل الإمساك بزمام المؤسسة الشريفة واضعا حدا لأربع سنوات من الغياب.
فور تعيينه مسؤولا عن المكتب الشريف للفوسفاط في فبراير 2006، اتجه المدير العام الجديد مباشرة نحو الجانب التدبيري والمالي، وقام بإجراء افتحاص شامل استعان فيه بإحدى أكبر المؤسسات العالمية المتخصصة في الافتحاصات الدقيقة.
وضع التراب الأصبع على جرح غائر وقديم في الجسم الفوسفاطي لم يسبق لغيره أن حاول علاجه، يتمثّل في ثقب كبير في مالية المؤسسة، يمسّ أساسا صندوق التقاعد الخاص بمستخدميها، حيث لم تكن مساهماتهم التي تُقتطع من أجورهم توضع في الصندوق الخاص بتقاعدهم، وظلّ العجز يتفاقم إلى أن وصل مستويات باتت تهدّد توازن المؤسسة، خاصة مع ظهور مشروع تأسيس صندوق خارجي للتقاعد، مع إمكانية إلحاقه بصندوق الإيداع والتدبير.
منتقد جريئ
علاوة على مراكمة الشهادات الجامعية العليا والجوائز الدولية والتجارب في أعلى المستويات، يشدّد بعض من كانت لهم فرصة اللقاء بمصطفى التراب ومجالسته، على أن مكمن القوة لديه يكمن في طبيعة شخصيته القوية والجريئة. وينقل أحد معارف الرجل تفاصيل جلسة فاجأ فيها التراب أحد أقوى رجالات الدولة “السابقين”، عندما دعاه إلى جلسة مشتركة “سرية” مع بعض الفاعلين السياسيين بهدف “استقطابهم” وإقناعهم بجدوى وصحة ما تفعله دولة “العهد الجديد”، فلم يتردد التراب في القول أمام المسؤول الكبير إن لا شيء يسير على ما يرام في البلاد، رغم إسهابه في سرد ما حققته المملكة في بعض القطاعات الاقتصادية، خاصة منها تلك التي أشرف عليها شخصيا.
حفيد شيخ الإسلام
ينحدر مصطفى التراب من عائلة فاسية عريقة، ويحمل في عروقه آثارا من دماء رجل طبع التاريخ الحديث للمملكة اسمه محمد بلعربي العلوي، المعروف بشيخ الإسلام. فهو حفيده من إحدى بناته.
أطلق التراب أول صرخة يوم 19 أكتوبر من العام 1955 بأحد البيوت الفاسية. وعلى غرار شريحة واسعة من أبناء البورجوازية الفاسية التي انتقلت من العاصمة العلمية إلى العاصمة الاقتصادية، التحق الطفل مصطفى التراب بثانوية “ليوطي” بمدينة الدار البيضاء، التابعة للبعثة الثقافية الفرنسية، ولم يغادرها إلا بعدما أنهى سنوات الأقسام التحضيرية، والمؤهلة لولوج المدارس العليا للمهندسين.
مباشرة بعد تحقيقه لهذا الهدف سنة 1976، توجه رأسا نحو مصنع الأدمغة، مدرسة القناطر والطرق في العاصمة الفرنسية. وتخرج منها مهندسا سنة 1979. لكنه لم يكتفي بذلك، والتحق بمعهد متخصص في التكنولوجيا، تابع لجامعة كامبردج، ليوالي قطف الشهادات العليا، من ماجستير ثم دكتوراة بناء على اطروحة في موضوع آليات المراقبة الجوية، نالها سنة 1990 بعد خمس سنوات من البحث. فلم يتأخر مفعول هذا التتويج الأكاديمي، حيث سرعان ما تمت المناداة عليه ليصبح مكلفا بمهمة في ديوان الملك الراحل الحسن الثاني، ابتداء من سنة 1992.
من ديوان الحسن الثاني إلى OCP
خلال الفترة الفاصلة بين تاريخ الحصول على الدكتوراة والتعيين في الديوان الملكي، عمل التراب أستاذ في شعبة علوم القرار وأنساق الهندسة، في معهد “رينسيلاير بوليتكنيك” بنيويورك. وأستاذ في شعبة الهندسة المدنية والبيئية مكلفا بدروس التحليل حسب المنهاج الحسابي وتحليل الأنساق والمعلوميات والتحليل الاقتصادي لمنظومات النقل… بعدما عمل أثناء إعداده لأطروحة الدكتوراة، أستاذا مساعدا في معهد التكنولوجيا التابع لجامعة كامبوردج.
فيما تحمل سيرته الذاتية تجارب مهنية من عيار خاص، منها إشرافه أواسط الثمانينيات على جزء من مشروع بناء المطار الدولي “الدمام” بالعربية السعودية، كما كان عضوا في الفريق الذي كلّف بالدراسات الاقتصادية لمشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا.
عندما قبل مغادرة مكتبه بالعاصمة الأمريكية واشنطن والالتحاق بإدارة المكتب، فلأنه كان ينوي تحويله إلى شركة عملاقة، مقابل أجر شهري عملاق أيضا، حيث يقدّر بما لا يقل عن ثلاثين مليون سنتيم، أي ثلاثة أضعاف ما كان يتقاضاه سلفه.
ليجمع التراب بين رئاسة أهم مؤسسة إنتاجية عمومية، وأكبر أجر على الإطلاق في القطاع العمومي، بالإضافة إلى فيلا راقية بحي أنفا وسيارتي خدمة من نوع “ميرسديس” و”اودي”