مستشفيات الموت

رغم أنني من “مواليد المستشفى العمومي”، أستطيع القول إنني كنت من القلة المحظوظة التي نشأت غير بعيد عن المربّع الواقع بين مستشفى ابن سينا الجامعي، ومستشفى الولادة، ومستشفى طب الأطفال، ومستشفى اختصاصات “الراس” من الحلق حتى الدماغ.
كنا نحن، معشر المقيمين، في محيط العاصمة نتلقى جلّ علاجاتنا هنا حيث تتوفّر أفضل التجهيزات والكفاءات، لتكون صدمتي الأولى مع الحالة الكارثية للمستشفيات العمومية صيف العام 2008، عندما سنحت لي فرصة فترة فراغ تفصل بين تخرجي وتاريخ التحاقي بعملي الرسمي الأول، فقرّرت انتهازها لاجتياز امتحان الحصول على رخصة السياقة، فكانت تلك مناسبة قيامي بزيارتي الأولى لمستشفى مدينة تمارة الإقليمي، من أجل الحصول على شهادة طبيب العيون…
أيقنت يومها أن عليك أن تدعو الله صبح مساء كي ينجيك من المرض لأنك إن لم تتمكن من “شراء” علاج حقيقي، ستضطر لتسليم نفسك لمستشفيات عمومية بهذا الكمّ من الاحتقار تجاه من يطلب شفاءها، بينما هي في حالة لا تصلح حتى لاستقبال البهائم… لينتهي بي الأمر يومها في مواجهة عنيفة مع طبيب صدمني بمشهد خروجه من إحدى القاعات وسيجارة مشتعلة بين شفتيه، بينما المكان مكتظ بالرضّع ومرضى العيون…
مرّت السنين وتغيّرت أشياء كثيرة في أحوالنا، وبقيت علاقتنا بالمستشفى هي نفسها، بل ربّما تدهورت أكثر، حيث كانت لي تجارب عائلية حديثة جعلتني أتردد على المستشفيات العمومية، والخلاصة أن أقسى لحظة يختبر فيها المغربي معنى المهانة، هي حين يدفعه المرض أو المخاض إلى باب مستشفى عمومي.
هناك، تتجسد حقيقة قيمته في السياسات الرسمية: صفوف ممتدة كأن الحياة يجوز أن تصبح سلعة نادرة، وجدران باردة ترد صدى أنينه، وأطباء وممرضون يركضون بين العجز والإرهاق، وأجهزة أوكسجين قد تتوقف في أية لحظة.
يدخل الإنسان المستشفى وهو على شفا حفرة من الموت أو العجز الدائم، أو وقد تحوّل حدث الولادة إلى نذير موت، فيجد نفسه مجرد رقم في سجل إداري، ينتظر توقيعا أو قرارا قد لا يصل أبدا.
إنها اللحظة التي يكتشف فيها الانسان أن الدولة لم تره يوما كروح لها الحق في الحياة، بل كعبء زائد على مرفق مثقوب؛ وأن كرامته الإنسانية، في مواجهة المرض والموت، لا تساوي أكثر من ورقة انتظار مطوية في جيب ممرّض مرهق.
في أكادير هذا الأسبوع، لم تكن الجموع التي التأمت أمام المستشفى الجهوي الحسن الثاني تبحث عن دواء ولا عن سرير مفقود، بل كانت تحتجّ على موت كان ينبغي أن “يتأجل”، وعلى إهمال تحوّل إلى قدر.
مأساة وفاة سيدة حامل بعد وضعها هناك، ليست حالة منفردة في دفتر أخطاء يومية، بل هي جزء من مشهد أكبر تتوالى فصوله في مستشفيات عمومية عبر ربوع المغرب، حيث يتحوّل الحق في العلاج إلى مقامرة بالحياة، وحيث باتت غرف الإنعاش ومصالح التوليد ساحات اختبار لمدى قدرة المواطن البسيط على تحمّل صدمة الإذلال قبل أن تداهمه صدمة الموت.
ما جرى في أكادير لم يكن إلا حلقة جديدة في سلسلة من قصص متشابهة: في الرباط، في قلب مستشفى مولاي يوسف، فارق أربعة مرضى الحياة دفعة واحدة في غرفة الإنعاش، وسط حديث عن أعطاب في قنوات الأوكسجين وبيانات رسمية لم تنجح في إقناع أحد.
وفي فاس، حيث انكشف المستور حين فككت السلطات شبكة داخل مستشفى عمومي يُتهم أفرادها بالتورط في وفاة أطفال مرضى بالسرطان. أما في مستشفى الليمون الرباطي التابع لابن سينا، فقد رحل رضيع وتدهورت حالة خمسة من حديثي الولادة، لتعلن الوزارة فتح تحقيق عاجل في مشهد تكرر حتى بات روتينيا: المأساة أولا، التحقيق ثانيا، ثم النسيان.
وفي العرائش، تكررت الفاجعة حين ماتت أمّ ورضيعها داخل مؤسسة عمومية، بينما لم تجد النقابات سوى المطالبة بتحقيق “محايد” يعرف الجميع مسبقا أنه لن يبدّل من واقع الحال إلا لغته الخشبية.
هذه الوقائع ليست أخبارا متفرقة من جغرافيا متباعدة، بل هي علامات متراكمة على خريطة واحدة: خريطة انهيار الثقة في المستشفى العمومي.
إنها قصص تنسج خيطا رفيعا من الخوف في وعي الناس، وتعيد تشكيل العلاقة بين المواطن ومرفق الدولة. فما جدوى الحديث عن إصلاح صحي أو ورش للحماية الاجتماعية إذا كان المواطن حين يدخل باب المستشفى العمومي، يدخل معه إلى قاعة انتظار قد تفضي به إلى الموت أكثر مما تقوده إلى الشفاء؟
ليس المشكل في قلة الموارد المالية وحدها، ولا في ضعف التجهيزات أو قلة الأطر، بل في منظومة كاملة فقدت البوصلة. المنظومة التي جعلت من الاحتجاج أمام أبواب المستشفيات رد الفعل الطبيعي، بدل أن تكون هذه المؤسسات مصدر طمأنينة وملاذا أخيرا للمريض.
المنظومة التي سمحت أن يكون الموت تحت أجهزة الأوكسجين، أو بسبب عطب فيها، خبرا عاديا في نشرات المساء. المنظومة التي سمحت لشبكات فساد أن تتغلغل في قلب مستشفى يُفترض أنه حاضن للأطفال المصابين بالسرطان.
المفارقة أن هذه القصص تتوالى في بلد يرفع شعار تعميم الحماية الاجتماعية ويحتفي بالورش الملكي لإصلاح الصحة. لكن أي معنى لحماية اجتماعية تغطي نفقات علاجٍ قد لا يصل أصلا؟ وأي إصلاح يمكن أن يطمئن الناس إذا كانت النتيجة المحسوسة في الواقع هي المزيد من المآسي؟
هنا، لا يتعلق الأمر بمشاريع قوانين أو بصفقات بناء المستشفيات، بل بجوهر العقد الاجتماعي: هل يستطيع المغربي أن يسلّم حياته للمرفق العمومي مطمئنا إلى أن الدولة لن تتركه يواجه الموت وحيدا؟
إن الاحتجاجات التي شهدتها أكادير، وما سبقها وما سيتلوها، ليست أحداثا عرضية. بل هي مرآة تعكس الشرخ العميق بين الناس ومؤسساتهم. ولعل أخطر ما تكشفه هذه المآسي هو أن المستشفى العمومي، الذي كان يوما ما عنواناً للمساواة والتضامن، صار اليوم رمزا للإهمال والفوارق الطبقية، حيث ينجو من يستطيع أن يدفع ثمن المصحة الخاصة، بينما يتحوّل الفقراء إلى أرقام في إحصائيات وفيات الأمهات والأطفال.
لهذا، لا يكفي أن نطالب بالتحقيق في حادثة هنا أو هناك، ولا أن ننتظر بيانات رسمية تخفف من وقع الصدمة. المطلوب اليوم إعادة تعريف وظيفة المستشفى العمومي في المغرب: من بناية يطارد فيها المواطن سريرا، إلى مؤسسة تضمن حقا دستوريا في الحياة.
المطلوب استعادة الثقة التي ضاعت بين أسر مكلومة ووزارة لا تكف عن إصدار البلاغات.
المطلوب أن يدرك صانع القرار أن الإصلاح الحقيقي لا يقاس بعدد المراسيم والقوانين، بل بعدد الأرواح التي تنجو من الموت داخل جدران المرفق العمومي.
إنه لأمر فادح أن يتحوّل دخول المغربي إلى مستشفى الدولة إلى مقامرة قد تخرجه في تابوت. والأفدح أن نتعايش مع هذه الحقيقة كأنها قدر محتوم.
لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تعيش على وقع الإذلال الصحي بلا نهاية، وأن المآسي إذا تكررت تحولت إلى لحظة وعي جماعي.
ولعلّ أهم ما في احتجاجات أكادير، أنها بعثت رسالة أبعد من أسوار مستشفى الحسن الثاني: أن حياة المواطن أغلى من أن تُختزل في بلاغ رسمي أو تحقيق إداري، وأن الحق في العلاج ليس منّة من الدولة، بل هو جوهر وجودها.