محنة المثقف بالمغرب وأسئلة المستقبل

تمر النخب المثقفة في المغرب، كما في كثير من السياقات العربية، بمرحلة دقيقة من التحول والارتباك. بعضهم دخل حقيقة في سبات جليدي عميق وانطواء على الذات ، فيما لجأ آخرون إلى اعتناق ثقافة الديزاين وركوب الموجة ، وهي وضعية تطرح أسئلة جوهرية حول الدور، والموقع، والوظيفة التي اصبح عليها المثقف .
لقد كان هذا الاخير تاريخيًا مثقفا عضويا ، أي شاهداً على قضايا شعبه، وناطقًا باسمهم، ومدافعًا عن قِيَم العدالة والتنوير، والحرية ومنخرط في ديناميات النضال ، غير أن تحولات العولمة وثورة تكنولوجيا الاتصال ، وصعود ثقافة الصورة واكتساح المؤثرين للمشهد أو اريد لهم ذلك ، ناهيك عن تآكل الفضاء العمومي، كل ذلك أثرت في هذا الدور الطليعي لنخب المثقفة بشكل جذري .
المثقف المغربي اليوم لم يعد قادرا على التأثير في سياق التحولات الجارية ، خصوصا وأن المغرب يشهد تحولات سياسية واقتصادية وثقافية عميقة متسمة بتراجع الفعل السياسي المدني، وهيمنة خطاب الدولة على الفضاء العام ، وانتشار الثقافة الرقمية، وتراجع القراءة والكتاب الورقي لصالح المحتوى السريع ، وضعف القطاع الحكومي الموكول له تنشيط الحياة الثقافية جراء غياب استراتيجية ثقافية وطنية محنة، تراعي المستجدات العالمية .
ناهيك عن تغير أنماط الوعي الجمعي، حيث أضحى الفرد يميل إلى الاستهلاك السريع للمعلومة، لا إلى إنتاجها أو نقدها.
ومما ساهم في تعقد ازمة الفعل الثقافي هو هيمنة المؤثرين (الإنفلونسرز) وصناعة نجومية لهم تسمح لهم باحتلال فضاءات كانت مخصصة للمثقفين، خاصة في الإعلام ووسائل التواصل .
هذا الوضع ساهم في محنة المثقف والاي يمكن رصد تجلياتها من خلال التهميش الإعلامي، بحيث استمرار غياب المثقف عن الإعلام العمومي والخاص، إلا استثناءً، وانحصار حضوره في ندوات مغلقة أو دوائر أكاديمية أو صالونات ثقافية معزولة عن الديناميات المجتمعية، كما تم رصد تراجع التأثير المجتمعي للمثقف جراء انعزاله الطوعي أو الاضطراري، مما ادى الى ضعف تواصله مع الشارع، وابتعاده عن قضايا الناس اليومية.
وتبقى أزمة الخطاب من أعمق الاشكالات التي عمقت محنة المثقف المغربي ، إذ يعاني الخطاب الثقافي من الانغلاق، واعتماد لغة نخبوية منفصلة عن لغة الناس ومشاغلهم. لكن هذه الوضعية لا تبرر حالة الاغتراب السياسي التي تعيشها الثقتفة والمثقف حيث يجد هذا الاخير نفسه بين سندان السلطة ومطرقة الشعب، دون أن يحظى بثقة كاملة من أي منهما.
وإلى جانب ما سبق يمكن القاء الضوء عن أسباب عميقة أخرى ساهمت في ازمة الثقافة والمثقف بالمغرب ، مرتبطة
اساسا بالتحول النيوليبرالي في الدولة والمجتمع، ما جعل المثقف غير ذي جدوى في السوق الجديدة التي تفضل الربح والترفيه والتفاهة بل والاستثمار فيها .
وكذلك استمرار أزمة التعليم العمومي، مما أدى إلى إنتاج أجيال لا تتفاعل مع الفكر النقدي والابداعي ، بل افرزت اجيالا لا تقرأ ، دون اغفال ضعف الحركات الثقافية والنقابية التي كانت تؤطر المثقف وتحميه ولعل واقع اتحاد كتاب المغرب يختزل الصورة باعادها المختلفة.
إن تجليات هذه الازمة تفرض علينا مقاربة شروط استعادة الدور
واستئناف المهام الطليعية ، ونرى ان عملية استعادة المبادرة من طرف المثقفين لا تتم الا عبر مداخل محددة من بينها الانفتاح على الرقمي، بإعادة صياغة الخطاب الثقافي ليتلاءم مع الوسائط الجديدة دون تفريط في العمق والجوهر .
النزول إلى الشارع، أي الانخراط في قضايا الناس اليومية، والاستماع إليهم، لا الحديث من فوقهم ، الشيء الذي يتطلب بشكل مستعجل تجديد الخطاب الثقافي وجعله أكثر وضوحًا وارتباطًا بالواقع ، وله قابلية للتداول . كما نرى ان المثقف عليه ان يستعيد مكانته داخل التنظيمات الحزبية والسياسية ، وعليه أن يتحالف مع قوى التغيير مثل الحركات الاجتماعية والمدنية، لبناء جبهة ثقافية ممانعة ومقاومة للتفاهة وترميز التافهين .
على سبيل الختم
إن محنة المثقف بالمغرب ليست قدرًا حتميًا، بل هي نتيجة سياقات يمكن فهمها وتفكيكها. ويبقى الرهان الأساس هو استعادة مكانة المثقف بوصفه ضميرًا يقظًا، وصوتًا عقلانيًا، وفاعلًا نقديًا، يشتبك مع القضايا لا يهرب منها، ويتفاعل مع الناس لا يعزل نفسه عنهم ، ويقف على خط التماس مع السلطة ندا لها ولا يدعن لها .