محمد كريم بوخصاص: فيديوهات المهداوي تكشف القعر الذي انحدر إليه تنظيم الصحافة
- ما هي القراءة الأخلاقية للمقاطع التي نشرها الصحافي حميد المهداوي والمتعلقة باجتماع للجنة الأخلاقيات التابعة للجنة المؤقتة لتدبير شؤون الصحافة؟
الفيديو المسرب، مهما حاولنا توصيفه، يبقى صادما إلى حد يصعب استيعابه، لكنه مع ذلك ليس حدثا معزولا، بل تتويج لمسار سوريالي بدأ منذ أكتوبر 2022، تاريخ انتهاء الولاية الأولى للمجلس الوطني للصحافة دون تنظيم انتخابات لتجديد هياكله. حينها تدخلت الحكومة للمرة الأولى لإقرار تمديد استثنائي لمدة ستة أشهر بدعوى تمكين المجلس من تنظيم الانتخابات، وهو ما لم يتحقق.
ثم عادت الحكومة للمرة الثانية وقدمت مشروع قانون لإحداث لجنة مؤقتة لتدبير شؤون قطاع الصحافة والنشر، استُكملت مسطرة التصديق عليه، لتحل لجنة مكونة من تسعة أعضاء، ثلاثة منهم مُعيّنون من طرف رئيس الحكومة، محل مجلس وطني منتخب من 21 عضوا. مع العلم أن هذا النمط من التعيين من قبل الجهاز التنفيذي يتعارض في جوهره مع فلسفة التنظيم الذاتي، القائمة على أن يتولى المهنيون تنظيم شؤونهم بأنفسهم، بمعزل عن تدخل السلط الأخرى.
وما زال هذا المسار التراجعي مستمرا إلى اليوم، بعد انتهاء الولاية القانونية للجنة المؤقتة المحددة في سنتين خلال أكتوبر الماضي، دون تنظيم الانتخابات كما نص على ذلك القانون، لنجد أنفسنا في مرحلة فراغ قانوني لا يعرف معها السند القانوني الذي يجعل هذه اللجنة تواصل عقد اجتماعاتها وإصدار قرارات وبلاغات. وذلك في وقت استُدعيت فيه الحكومة للتدخل للمرة الثالثة عبر مشروع قانون لإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، يحمل طابعا نكوصيا يضرب في الصميم مبادئ التنظيم الذاتي ويتراجع عن كثير من المكتسبات المحققة.
لا أخفيك أنه قبل نشر الفيديو المسرب، كان اعتقادي الراسخ أن مسار التنظيم الذاتي للصحافة –باعتباره أحد أهم مكتسبات الصحافة المغربية في العقود الأخيرة– قد دخل مرحلة استثنائية أهدرت عامين ونصف العام دون تفعيل آلية الانتخاب لإفراز مجلس وطني جديد.
لكن اليوم، ومع المشاهد الصادمة التي تضمنها الفيديو، تبين أن كل ما جرى كان يصب في اتجاه تشكيل لجان تُمرّغ كرامة الصحافيين في الوحل وتجهز على ما تبقى من هيبة مهنة الصحافة. فمن كان يتصور أن تجتمع لجنة للأخلاقيات دون أن يتقيد أعضاؤها بالحد الأدنى من الأخلاق، من أجل “محاكمة” صحافي بتهمة الإخلال بميثاق الأخلاقيات!
لقد كان المشهد صادما ومحزنا في الآن ذاته؛ أن ينتصب المجتمعون في موقع “قضاء الزملاء” وهم يجهلون المقتضيات القانونية المنظمة للجنة المؤقتة، والأنظمة الداخلية التي تحدد كيفية التعامل مع النوازل المعروضة عليهم، بل يجهلون حتى أبسط حقوق “القَرِينِ” الذي تتم محاكمته. في حين أن هذه اللجنة تقوم أصلا على فكرة حكم الأقران، بما تقتضيه من صرامة وحساسية في الآن ذاته.
لقد كشف هذا الاجتماع عن أسوأ وجه لمن يُفترض فيهم أن يضطلعوا بأسمى مهمة، وهي الدفاع عن الأخلاقيات لصالح المجتمع ومن أجل حماية المصلحة العامة، وأظهر جزءا من القعر الذي انحدرت إليه تمثيليات الصحافيين، ومعها الممارسة الصحافية، بفعل تراكمات من الفشل، وغض الطرف، والتساهل، وهي نتيجة لما يمكن وصفه اليوم بـ”سحق” الصحافة بأيدي بعض أبنائها، أو بأيدي من أريد لهم أن يُنصَّبوا ممثلين لها ومدافعين عن شرفها.
- كيف تنعكس تلك المقاطع وما تضمنته من تصرفات صادمة على صورة تجربة التنظيم الذاتي للصحافي في المغرب؟
إن من أهم ضمانات نجاح تجربة التنظيم الذاتي للصحافة الثقة، أي ثقة الصحافيين في مؤسسة التنظيم الذاتي من جهة، وثقة الجمهور في هذه المؤسسة من جهة ثانية، بوصفها هيئة يُفترض أن تحميه عبر مساءلة مهنية مستقلة وعلنية، وتعزز الجودة وترسخ علاقة مسؤولة بين وسائل الإعلام ومتلقيها.
فالتنظيم الذاتي هو في جوهره شكل من أشكال العقد الاجتماعي المهني، يقوم على تعهد المؤسسات والصحافيين بتدبير نظام طوعي لمراقبة الجودة والالتزام بأخلاقيات المهنة، مع الاستعداد للخضوع لنتائج المساءلة عندما تقع الانزلاقات أو المخالفات.
وإذا كانت ثقة الجمهور هي الغاية القصوى من كل منظومة للتنظيم الذاتي، فيمكننا أن نتخيل حجم الانهيار الذي أصاب هذه الثقة بعد نشر الفيديو المسرب، وما كشفه من ممارسات وتصرفات مناقضة لروح الأخلاقيات. لقد دفع ذلك عددا من الصحافيين، بل ومن المتابعين، إلى حد “الكفر” بهذه الفكرة الجميلة التي تُعتبر في الأصل أرقى وسيلة لضمان أكبر قدر ممكن من حرية الصحافة مع حفظ كرامة المهنة وحقوق المجتمع في آن واحد.
- كيف ينبغي التعاطي مع هذه المقاطع، هل كدليل قاطع أم كبداية لكشف حقائق؟
لا أعتقد أن من الحكمة التعامل مع هذه المقاطع باعتبارها “دليلا قاطعا” يحسم كل شيء نهائيا، ولا باعتبارها مجرد “زوبعة عابرة” يمكن تجاهلها. الأفضل أن يتم التعامل معها كمعطى خطير ودليل قوي يكشف عن اختلالات بنيوية عميقة في طريقة اشتغال مؤسسة يُفترض فيها حماية الأخلاقيات، وكنقطة بداية لفتح مسار توثيق وكشف منهجي للحقيقة، لتعرية واقع لم يكن لنا أن نعرفه لولا هذا الفيديو.
فمعرفة القعر السحيق الذي وصلت إليه الأمور أمر مؤلم، لكنها في كثير من الأحيان معرفة ضرورية، لأنها تكشف زيف مسار كامل، وتفسر أشياء كثيرة كان يخفيها أصحابها. كما أنها تُعرّي النفق المسدود الذي دخله التنظيم الذاتي بإسهام مباشر من السلطة التنفيذية التي تدخلت، أو استُدعيت للتدخل، بعد تعطيل إجراء الانتخابات.
فلا يجب أن ننسى أن أولئك المجتمعين في ذلك الاجتماع المخجل، الذي عرّى الواقع، كانوا موجودين هناك بقرار حكومي، فالحكومة هي من اختارت الإبقاء على أربعة فقط من أصل 14 مهنيا من المجلس السابق، ضمنهم الرئيس ونائبته، ورئيس لجنة الأخلاقيات، وهؤلاء الثلاثة كانوا في ذلك الاجتماع، أما العضوان الآخران في ذلك الفيديو فهما مُعيَّنان مباشرة من لدن رئيس الحكومة.
فضلا عن ذلك، تضع هذه المقاطع بين أيدينا شبهة جدية حول طريقة ممارسة “قضاء الزملاء”، وحول احترام الضمانات القانونية والأخلاقية في مساطر البت في الشكايات. لكن استثمارها الأخلاقي والقانوني يفترض فتح تحقيق مستقل وشفاف، كما يفترض تحويل هذه الواقعة إلى مدخل لمراجعة شاملة لطرق اختيار أعضاء مؤسسة التنظيم الذاتي، ومعايير الاستقلالية والكفاءة، وضمانات المساءلة أمام الجسم المهني.
يمكن القول إن ما جرى يعد جرس إنذار ينبغي أن يدفع نحو كشف الحقيقة كاملة، وترميم ما يمكن ترميمه من الثقة، أو الإقرار بأن تجربة التنظيم الذاتي تحتاج إلى إعادة بناء جذرية إن ثبت أن الخلل بنيوي لا عارضا.
- هل يمكن توقع البناء على هذه الصدمة الجماعية التي أحدثتها هذه المقاطع لتحقيق اختراق إيجابي في الوضع القانوني والمؤسساتي للصحافة المغربية؟
نعم، يمكن من حيث المبدأ البناء على هذه الصدمة لتحقيق اختراق إيجابي، لكن ذلك لن يحدث بشكل تلقائي، فالصدمة في حد ذاتها ليست ضمانة للتغيير، بل هي نافذة صغيرة يجب فتحها واستثمارها في اتجاه الإصلاح. وإذا لم تستثمر كما ينبغي، فسنكون أمام ضجيج مؤقت سرعان ما يخفت أو يُنسى، كما حصل مع صدمات أخرى تعرض لها المجتمع.
أرى أن تحويل هذه الفضيحة إلى لحظة تأسيسية جديدة يمر عبر ثلاثة مستويات مترابطة:
أولها، أن يدرك المهنيون أن ما وقع ليس مجرد انحراف في سلوك أشخاص، بل نتيجة لمسار سوريالي وعبثي، ولترك مصير التنظيم الذاتي في يد أقلية صغيرة تتصرف باسمه دون مساءلة حقيقية.
ثانيها، ترجمة هذا الغضب الأخلاقي إلى تنظيم بين مهني للترافع من أجل صيانة مؤسسة التنظيم الذاتي، ووضع ضمانات تحول دون تحويل “قضاء الزملاء” -باعتباره آلية لحماية شرف المهنة– إلى فضاء لتصفية الحسابات أو تمرير الإملاءات.
وثالثها، استثمار هذه اللحظة للضغط من أجل مراجعة مشروع القانون الجديد المنظم للمجلس الوطني، والتراجع عن كل المقتضيات النكوصية، وإعادة الشرعية الانتخابية لمؤسسة التنظيم الذاتي عبر تنظيم انتخابات نزيهة، بضمانات واضحة للتمثيلية والتعددية والاستقلالية، بما يعيد بناء الثقة في التجربة بدل الاكتفاء بترميم واجهتها.
- ما العلاقة الممكنة بين هذه الواقعة والورش التشريعي المتمثل في مناقشة مشروع قانون جديد للمجلس الوطني للصحافة؟
العلاقة بين الواقعة وبين الورش التشريعي ليست عرضية، بل هي علاقة بنيوية، لأن ما كشفه الفيديو المسرب هو في جوهره نتيجة مباشرة لنفس الاختيارات التي أوصلتنا إلى لجنة مؤقتة تشتغل خارج زمنها القانوني، وأفرزت مشروعا لقانون جديد يتراجع عن العديد من مكتسبات التنظيم الذاتي التي أقرها القانون المحدث للمجلس الوطني للصحافة.
ينبغي أن نكون واضحين بالتأكيد على أن ما جرى داخل لجنة الأخلاقيات هو ثمرة لمسار بدأ بتعطيل الانتخابات، وتعويض مجلس منتخب بهيئة مؤقتة معينة جزئيا من طرف الحكومة، وذلك بالانتقال من منطق مؤسسة تنظيم ذاتي انتخبها المهنيون –بغض النظر عن الملاحظات المشروعة على انتخابات 2018– إلى منطق تدبير فوقي يضعف الاستقلالية.
ومن المتوقع أن يعلن عمليا عن وأد تجربة التنظيم الذاتي للصحافة في المغرب في حال التصديق على مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة بالصيغة التي صودق عليها في مجلس النواب في يوليوز 2025، حيث سيتم إفراز مجلس وطني جديد بآليات مختلفة وفي ظل غلبة كفة الناشرين التي تفتح باب حصول تواطئ فئة على أخرى، وجعل المال هو العنصر المتحكم في التمثيلية، واختلال واضح في المساواة بين مكونيه (الصحافيون، والناشرون)، مع الإبقاء على انتخاب ممثلي الصحافيين المهنيين مقابل اعتماد التعيين في صفوف الناشرين، وهو ما يضعف مبدأ تكافؤ التمثيلية وشرعية التفويض.
- ما الخطوة، أو الخطوات، التي ينبغي الإقدام عليها بعد هذه الصدمة في تقديرك؟
أول خطوة ينبغي الإقدام عليها هي منع استعمال هذه الفضيحة كذريعة لتبرير مزيد من التضييق على فكرة التنظيم الذاتي، تحت مبرر أن الصحافيين فشلوا في تنظيم أنفسهم، فيُستغل السلوك الشاذ لبعض الأفراد للتخلي عن فكرة التنظيم الذاتي أو لإعادة هندسة المجلس الوطني بطريقة تقلص من استقلاليته وتفرغه من مضمونه.
أما الخطوة الثانية فتتمثل في الترافع من أجل مراجعة جذرية تعيد الاعتبار لفكرة التنظيم الذاتي الحقيقية، عبر تقوية شروطها: انتخابات نزيهة، تمثيلية حقيقية، قواعد صارمة لتدبير تضارب المصالح، شفافية في المساءلة، وإشراك الجمهور في تقييم أداء المجلس وقراراته الأخلاقية.
الخلاصة، إن هذه الواقعة تمثل مرآة تعكس فشل المسار الذي أوصلنا إلى لجنة مؤقتة بهذه الشاكلة، وفي الوقت نفسه تشكل اختبارا لمصداقية الورش التشريعي الحالي. والرهان اليوم هو استثمار الفضيحة لإعادة بناء مجلس وطني جديد مستقل فعلا، وبعيد عن متناول فاقدي الثقة وروح التنظيم الذاتي.
*أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس