story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

محمد المدني يكشف كيف “قبضت” السياسة “روح” دستور 2011 الديمقراطية

ص ص

كشف أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، محمد المدني، كيف أدّت الممارسة السياسية وتفاعل ديناميات واختيارات الفاعلين، إلى جعل دستور 2011 وثيقة “توفيقية” تحمل الشيء ونقيضه، ما أفرغ جلّ المفاهيم التي يقوم عليها البناء الديمقراطي من معناها وأكسبها معان تكاد تكون مناقضة لمدلولها الأصلي.

وأوضح محمد المدني في درس ألقاه داخل مدرّج عبر الرزاق مولاي رشيد بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-السويسي، بالرباط، التوفيقية الدستورية الحالية تتميز بعدة خاصيات، تتمثل إحداها في التعايش داخل نفس النسق الدستوري لمقتضيات متنافرة، “منها ما يعود إلى التقليد أو ما يسمى بإعادة اختراع التقليد كما هي حالة الدستور المغربي من خلال عودة منتقاة إلى بعض المقولات للإجابة على أسئلة جديدة”.

وشدّد المدني على أهمية استحضار الفعل السياسي الذي أحاط بمسار إنتاج هذه الوثيقة عوض الاكتفاء بقراءتها بطريقة “مكتبية”، معتبرا أن هناك احزاب وجماعات تلجأ إلى المقتضيات الإسلامية في النظر إلى الدستور، وفي المقابل وباسم نفس المقتضيات تطالب هيئات أخرى بكونية حقوق الإنسان والمساواة بين المرأة والرجل، “وهي نقطة ليست وليدة دستور 2011، بل تعود إلى دستور 1962 حين لجأ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى شخصيات مثل محمد بلعربي العلوي للدفاع عن موقفه من الدستور خلال الاستفتاء”.

درس افتتاحي مؤجل

محاضرة محمد المدني كانت مبرمجة في الأصل لتكون درسا افتتاحيا للسنة الجامعية الحالية، قبل أن تحول ظروف شخصية دون تنظيمها، وهو ما جعل الأستاذ الجامعي ومنسّق ماستر الدراسات الدستورية والسياسية والإدارية، أحمد بوز، يصف اللقاء ب”الدرس الاختتامي”.

وقدّم بوز المحاضر بكونه يتميّز أستاذ باحث أغنى المكتبة الجامعية والقانونية والسياسية والدستورية بعدد من الأعمال، الكثير منها باللغة الفرنسية، “وما أحوجنا لترجمة هذه الأعمال التأسيسية للغة العربية”.

وأضاف بوز أن المدني تميز ايضاً كمؤطر وأستاذ أشرف على مئات أو آلاف من الطلبة في كلية الحقوق أكدال، وبكونه ايضاً، “مثقف ملتزم بكل معنى الكلمة أو المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي، وهي خصلة وميزة يتسم بها الأستاذ المدني انطلاقا من التزامه الدائم في مساره المهني والشخصي بالقضايا، الجامعية وما يحيط بالجامعة سياسيا واجتماعيا”.

واعتبر بوز تعليقا على إحالة محمد المدني على التقاعد، أن كلا من الأستاذ والصحافي لا يتقاعدان، بل يظلان داخل الدائرة المهنية بطريقة أو بأخرى. مضيفا أنه عرف الأستاذ المدني نهاية عقد التسعينيات، واصفا إياه بكونه “نموذج للشخص الذي يعطى به المثل كانسان هادئ يقبل الحوار والنقد، وأسّس لعلاقات مبنية على الاحترام وتبادل الرأي والتشجيع”.

وخلص أحمد بوز إلى أن الأستاذ المحاضر هو صديق الأحزاب وصديق الجمعيات وصديق النقابات والمجتمع المدني بشكل عام، “وأعتبره شخصيا مكسبا كبيرا للجامعة المغربية والطلبة المغاربة، وسيبقى في تاريخ الجامعة المغربية كأستاذ جدي، ويعمل بنكران ذات ولم يشهد قط انه كان في سباق حول شيء أو منصب أو مسؤولية، ولو ان هذا ليس عيبا”.

دستورنا لم يكتبه فيلسوف

حرص محمد المدني على تأطير محاضرته منهجيا منذ البداية، حيث نبّه إلى أن دراسة الدستور لا يمكن ان تنفصل عن دراسة المحيط الاجتماعي والسياسي.

وشدّد المدني على أن أطروحته بالنسبة لدستور 2011، تجعله يعتبره نتاج وضعية سياسية معينة، وأفعال، وردود أفعال فاعلين سياسيين في مرحلة معينة، “أي أنه تعبير عن مرحلة، قد يستمر الدستور بعدها، وقد استمرّ بالفعل، لكن التفاعلات هي التي تحكم مصير الدساتير، أي الوضعيات السياسية التي ستمر منها البلاد وتفاعلات الفاعلين فيها”.

واستعان المدني بالفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوكهايم، الذي قال في درس افتتاحي ألقاه أمام طلبته نهاية الثمانينيات، أن من الضروري بالنسبة لطالب القانون ألا يبقى سجين الدراسات النصية الخالصة، “فإذا كان سيخصص وقته كله للتعليق على النصوص والاقتصار على دراسة القانون والبحث على مقاصد المشرع، فإنه سيتعود على اعتبار أن إرادة المشرّع هي مصدر القانون، وهو بذلك يغلب النص على المضمون والمظهر على الواقع، والحقيقة ان القانون يتبلور داخل أحشاء المجتمع، والمشرع ليس سوى ذلك الذي يكرّس عملا تم بدونه”.

وأعلن المدني، انطلاقا من ذلك، أن المنهاج الذي اختاره في دراسة الدستور المغربي يركز على الديناميات السياسية “التي يعتبر النص، أي دستور 2011 نتاجا لها أو مفعولا لها”.

وشدّد الأستاذ المحاضر على أن هذا الاختيار يسمح بإضاءة النتائج الدستورية للنزاعات بين الفاعلين السياسيين الحاملين لتصورات متناقضة، احيانا للدستور وأخرى للقانون وللسلطة، في فترة معينة وهي فترة فبراير 2011 وما تلاها”.

انطلاقا من تأطيره المنهجي، قال محمد المدني إن الدستور ليس نتاجا لمفكر، وليس كتابا وضعه أرسطو أو روسو، “لأن الأول وضع دستور أثينا، ولا يمكنك أن تناقش دستور الفيلسوف. وروسو أيضاً وضع مشروع دستور لكورسيكا ودستور لبولونيا، لكن لم يكتب لهما النجاح. وطبعا لا يمكنك مناقشته لأنك لست ندّا له، بينما الدستور المغربي هو نتاج لفاعلين سياسيين في مرحلة معينة، ونتاج تعدّدية في الكتابة، وهو ما لا يعني ان كل الفاعلين يتوفرون على نفس التأثير والموارد في كتابة الدستور”.

وثيقة المتناقضات

عند انتقاله إلى صلب الموضوع، حرص محمد المدني إلى رصد الخصائص الكبرى التي ميّزت سياق ميلاد دستور 2011. ومن بين تلك الخصائص، غياب التوازن بين الفاعلين مشيرا بشكل ضمني إلى الدور المهيمن للملكية في مقابل أدوار هامشية لفاعلين آخرين، مقدما مثال الحزب الاشتراكي الموحد، ومشيرا إلى أحد قيادييه الحاضرين في المدرّج، وهو الأستاذ محمد الساسي.

وخلص المدني إلى أن دستور 2011 هو نتاج وضعية سياسية معينة، “ومضمونه هو نتاج لحراك دستوري اتسم بالتشتت وعدم التجانس في التصورات حول الدستور والديمقراطية وتنظيم السلطة، ولم يتبلور حول أهداف جماعية أو قيم دستورية مشتركة، ما أدى إلى قواعد دستورية نابعة من عوامل مختلفة تداخلت في ما بينها”

عوالم جسّدها المحاضر في أمثلة مثل العالم القانوني لحزب العدالة والتنمية من خلال مذكرته الدستورية ومذكرة جناحه الدعوي، حركة التوحيد والإصلاح، “حيث نجد تصورا للمساواة والقانون يختلف عن تصورات الأطراف الأخرى، وهو ما أدى إلى مركّب دستوري اسمّيه توفيقيا، أي تداخلت فيه تصورات ومعتقدات للقانون وللسلطة، متنافرة في ما بينها”

كما أوضح المدني أن وثيقة دستور 2011 تضم عناصر متداخلة قادمة من الماضي وأخرى قادمة من أنظمة مختلفة تتعارض فيها القاعدة الدستورية مع الفتوى، والمؤمن مع المواطن، وتتعارض الدولة الرعوية مع دولة القانون، والأمة بمفهومها العصري والأمة بمفهومها الديني… “وهذه المفاهيم لا تنبع من تصور مشترك للسلطة والقانون ولا تؤدي إلى نفس القراءات، والسؤال الذي يطرحه النظام التوفيقي هو كيف نفهم المنطق الكامن خلف هذه التناقضات؟ هل هي عشوائية أم يحكمها منطق ما؟”.

أسئلة قال المدني إنها تعيدنا إلى دور الفاعل السياسي في المغرب، “لأن النص يتم استدعاؤه من طرف الفاعلين ويكون نتيجة استراتيجيات متعارضة”.

أما الخاصية الثانية التي ميّزت دستور 2011، فهي الترجمة بمعناها اللغوي والاستعاري، “فالأفكار والقواعد والمؤسسات الدستورية العصرية تمر عبر مصفاة اللغة العربية، فتنتقل من عالم قانوني إلى آخر، ويتحول معناها الأصلي، لتصبح متناغمة مع سلطة ملكية فعلية، وتتحول الترجمة إلى عملية بناء معان جديدة وتأويلات أخرى”.

دستور يقتل المفاهيم

الخاصية الثالثة للدستور المغربي، حسب محمد المدني، هي تغيير المعاني الرئيسية للدستور وللديمقراطية، وهي ممارسة اعتبرها مشتركة بين القوى المؤثرة ولا تقتصر على طرف دون آخر.

“معظم القوى السياسية التي قدمت مذكرات للجنة الاستشارية تتبنى خطابا حول دولة القانون والديمقراطية، لكن المعاني التي تعطيها هذه القوى للمبادئ الدستورية الديمقراطية تختلف، حيث تقوم بعملية تملّك وإعادة تأويل بشكل يناسب توجهاتها”، يقول المدني، مقدّما المثال بثلاثة مفاهيم هي فصل السلط والسيادة الوطنية والملكية البرلمانية:
تبنّت الوثيقة الدستورية المغربية مبدأ فصل السلط الذي أتى به مونتسكيو والفكر الديمقراطي ورفعه المتظاهرون في شوارع المدن، لكن هذا التبني جرى بطريقة مختلفة عما أتى به متظاهرو حركة 20 فبراير. “فالدستور يشير في فصله الأول إلى فصل السلط، بينما المعنى الذي أعطي له تقني ووظيفي يتناسب مع ملكية فاعلة وحاكمة تتوفر على صلاحيات واسعة، والحال ان الهدف الرئيسي من فصل السلط ليس هو التنظيم التقني بل الحد من السلطة المستبدة”.

أما مفهوم سيادة الأمة، فإن الدستور المغربي يعيد انتاجه، حسب محمد المدني، من خلال إعطائه معنى خاصا. “فالأمة تأخذ معنى لائكيا يعني مجموع المواطنين في إطار الدولة الأمة، لكن لها ايضا مدلولا يتعدى الحدود الوطنية ويدخل في مجال وضعية المؤمنين التي لا تدخل في جانب محدد جغرافيا”.

بينما المفهوم الثالث هو الملكية البرلمانية التي نص عليها دستور 2011، “وهو تنصيص يطرح إشكالاً ينبغي فهمه بالعودة إلى التفاعلات، حيث ينص الدستور على أن نظام الحكم في المغرب ملكير دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية، لكنه لا يدرجها ضمن الثوابت الجامعة للأمة، حيث تستند الأمة، في رأي المحاضر، على ثوابت هي الدين الإسلامي والوحدة الوطنية والملكية الدستوري.

فشل الملكية البرلمانية

توقّف محمد المدني عند مثال غياب البعد البرلماني للنظام السياسي المغربي رغم ورود المفهوم في الوثيقة الدستورية، مستدعيا “الوضعية” التي أنتجت هذا النص.

وأوضح المدني أن مطلب الملكية البرلمانية ارتبط بصعود حركة 20 فبراير، مذكّرا بالعدد الكبير للوثائق التي أنتجت بين 27 يناير و20 فبراير 2011، كلّها تدافع عن “ملكية متنورة” أو “ملكية برلمانية ضمنية” أو “برلمانية” بالمعنى الصحيح، وهو مطلب قال المدني إنه أعطى للحركة مصداقية لدى الرأي العام والخصوم.

وتساءل المدني عن الفاعلين الذين دافعوا عن مطلب الملكية البرلمانية في تلك اللحظة؟ وماذا كان موقف حركة عشرين فبراير؟ وماذا كان موقف الملكية وحزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان؟

وخلص المدني إلى أن هؤلاء جميعا لم يتبنوا الملكية البرلمانية، معتبرا أن ذلك يظلّ مفهوما عند الملكية، إذ لا يمكن أن تتنازل بشكل تلقائي عن سلطاتها.

أما حزب العدالة والتنمية، فقال المحاضر إنه كان حينها تحت تأثير معين ولم تكن الملكية البرلمانية شغله الشاغل. بينما قال أن جماعة العدل والإحسان تعتبر أنها لن تقدم هدية مجانية، في إشارة منه إلى الإقرار بسلطة الملكية من الأصل.
والنتيجة، حسب محمد المدني، أن الدستور حافظ للملكية على الوظائف الرئيسية الثلاث في المجتمع، وهي الوظائف الحربية والروحية والاقتصادية.

الأولى، أي الوظيفة الحربية، جسّدها تنصيص الوقيقة الدستورية على أن الملك قائد أعلى للقوات المسلحة، ومنحه صلاحية اتخاذ قرار إعلان الحرب ومجموع السلطات الاستثنائية مثل حالة الحصار… أما الوظيفة الروحية أو الدينية فهي تمارس بأشكال مختلفة، وتندرج ضمن ما عبّر عنه المدني ب”الحكم الرعوي” الذي يعطي تصورا معينا للدين ويعتبر ان من صلاحيات الراعي ان يكون مسؤولا عن رعيته. وتتمثل هذه الوظيفة في حماية الرعية من الفوضى والاضطرابات وتحقيق الأمن الروحي…

أما الوظيفة الثالثة والأخيرة، فلا يتم تناولها عادة في الدراسات الدستورية، لكنها حاضرة، حسب محمد المدني، بشكل واضح في الدستور، والذي يبين أن الملكية تتحكم في القرار الاقتصادي بواسطة البنك المركزي والمؤسسات العمومية الاستراتيجية وعبر المجلس الوزاري الذي يضع التوجهات العامة لمشروع قانون المالية…

مسؤولية “محاسباتية” لا سياسية

الخاصية الرابعة للتوفيقية الدستورية المغربية، حسب محمد المدني، هي إعادة صياغة مبادئ التدبير العمومي الجديد، خصوصا تلك الأدوات القابلة لاستعمالات مضادة لمنطق لأغلبية، وارتبط ذلك بمجموعة من المصطلحات مثل الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة والتقنين والتخليق…

وأوضح المدني أن الهدف هو الجمع بين عقيدتين متناقضتين: عقيدة حكومة سياسية تستمد سلطتها من صناديق الاقتراع، وعقيدة تدبيرية ترى في قاعدة الأغلبية خطرا يهدد النظام المؤسساتي وتعطي الأولوية للأخلاق ومبادئ الحكامة الجيدة كتيمة مركزية تخترق الدستور كله، وتتخذ على المستوى العملي صورة عدة هيئات ومؤسسات.

وتلتقي هذه العقيدة التدبيرية، حسب محمد المدني، مع مهمة منافسة الحكومة السياسية، ومع توجهات الوكالات الدولية التي تروّج لمبادئ التقنين والشفافية كيفما كان السياق.

ومن بين مبادئ التدبير العمومي الجديد، ذكر المحاضر مقولة قال إنه لم يفهمها بعد، وهي “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، لأن المشكل الرئيسي في الدستور، في رأيه، هو المسؤولية السياسية، “فتصبح هذه العبارة سعيا لتغييب قضية أساسية وهي مسؤولية الحاكمين وخصوصا الحاكمين من الدرجة الأولى، لأن المسؤولية السياسية ضخمة، وكان يفترض أن يقدم لها الدستور جوابا، لأن فاعلين سياسيين مؤثرين في المرحلة التأسيسية تجنبوا طرح موضوع المسؤولية السياسية للحاكمين من الدرجة الأولى، فتم تعويضها بهذه المحاسبة التي تحيل على شيء مختلف عن المسؤولية السياسية والجنائية، وهي المحاسبة التي وردت بمعنى محاسباتي، والمعني بها هو المجلس الأعلى للحسابات، بينما المسؤولية السياسية لم تطرح”.