story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

مجلس “ضبط” الصحافيين

ص ص

يكاد إفساد الصحافة يُغلِق دائرةً كاملة لمزيد من خنق القطاع وطَيِّه وحشْره في جيب “الضبط”، بكل أنواعه. مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة حلقةٌ ضمن مسلسل من الإضعاف والإنهاك.

تشعر أن كل البلد مصابٌ بـ”عدوى الضبط”. يتحرّكون في كل اتجاه لتأبيد الخوف من الانفتاح. وكلما بَرَقت بارقةُ أملٍ، تجد من يفتح المظّلات حتى لا تُمطر حرية، ويفكّر كيف يجعلنا نمشي مثقلين بالقيود، ومُدانين حتى قبل أن نمارس حقنا في التعبير. نفس القصة تحدثُ مع فكرة التنظيم الذاتي للصحافة المُجهَضَة.

أميلُ إلى تبسيط الفكرة ووضعها في سياق عامٍ بدل الغرق في تفاصيل القانون. يوم جرى التفكير في التنظيم الذاتي كانت الآمال “كبيرة”، وواضحةً: تمكين الصحافة من التنظيم الذاتي في نوع من الاستقلال عن الإدارة، والغاية توفير ظروف حمايةٍ أكبر للممارسة الصحافية، في سبيل تعميق المكاسب الديمقراطية المأمول تحقيقها، عبر جعل المجال بين يديْ الصحافيين والناشرين، مدعوماً بتمثيليات للمجتمع، مُنطلِقاً من فكرة شديدة البداهة: الصحافة في جوهرها حقٌّ للمجتمع، و”سلطة رابعة”، مضافة إلى السلطة التشريعية والسلطة التنفيدية والسلطة القضائية، مجاوِرةً لها غيرَ خاضعةٍ.

الآن، يتبيّن أن لا شيء يكتمل في المغرب، وأننا كلّما تقدمنا خطوة إلى الأمام، علينا أن نترقّب “قُطّاع طرقٍ” مستعدين لتحويل كل الاستحقاقات إلى فرصٍ مهدورة.

هذه اللحظة شديدة العبث تحكمها ثلاثة شروط يجب التصريح بها بلا تردّد:

أولا، في بيئة غير ديمقراطية يبقى كل طموح إلى الحرية واستقلال الصحافة يترنّح. سنختصر القول: نظامنا السياسي غير ديمقراطي كفايةً. ولا يمكن بحالٍ، في ارتباط بحرية الصحافة، أن نتوقّع إعلاماً يسير بسرعة تتجاوز “البيئة”، وإلا سيجد الصحافيون أنفسهم أمام طريق سيّارٍ نحو السجن في ظل تغوّل قوى مضادة لفكرة الديمقراطية. قبل التنظيم الذاتي وكل القوانين ذات الصلة بالصحافة والحريات، يجب أن نحسم بشأن علاقتنا بالديمقراطية. لا صحافةً قويةً ومسؤولة دون ديمقراطية، وستبقى أقواسُ الانفراج و”النوايا الحسنة” آيلة دائماً للانهيار والانغلاق في كل لحظة.

ثانياً، سيكون من الحُمق انتظار أي نَفَسٍ ديمقراطي من حكومة لا يشغلها تعميقُ أي مكسبٍ ديمقراطي. الحكومة تعتبر كل شيء “نموذجا اقتصادياً”، والمواطِنَ زبوناً، وتحصيل حاصلٍ ألا ترى في قطاع الصحافة غير رقم معاملات وأجور و”مقاولة”، والجريدةَ والموقع الإلكتروني والإذاعة والقناة التلفزية وكالات علاقات عامة. لهذا تحديدا ينزعجون من الصحافة المِهْنية، ولهذا اشتروا أغلبها. لم يُخْبِرهم أحدٌ يوما أن الصحافة المستقلة من أساسات قيام الدول الديمقراطية. الناس لا تعيش بالخبز وحده.

ولنفهم أكثرَ انشغالات هذه الحكومة الأساسية في علاقة بفكرة الديمقراطية والحقوق والشفافية، نحتاج للنظر فقط في ثلاثة قوانين أو مشاريع قوانين على الأقل: قانون الإضراب، ومشروع قانون المسطرة الجنائية والمواد التي تمنع جمعيات المجتمع المدني من تقديم شكايات في قضايا المال العام والفساد المالي، ثم مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة. وهل نحتاج، أيضا، إلى التذكير بسحب رئيس الحكومة الحالي لمشروع القانون رقم 10.16 المتعلق بتتميم وتغيير مجموعة القانون الجنائي الذي يتضمن مادة حول تجريم الإثراء غير المشروع؟.

ثالثا، في قطاع منهكٍ ومشتّت، مع سبق إصرار وترصّد، ويخضع لعملية ترويضٍ قاسية، تبدأ بالمحاكمات، ولا تنتهي بتصدير المهووسين بالتحكّم لـ”الزَعامة” و(الزْعامة نيت)، يصعبُ البناءُ مادام هؤلاء يحملون معاول التخريب باستمرار مستندين على مزاعم “دعمِ الدولة”، وأيضا الراساميل الضخمة التي يجب أن نعرف مصادرها الحقيقية.

مشروع القانون رقم 26.25 بدأ فعليا بإضعاف تمثيلية الناشرين وتشتيتها، مُترافقاً مع مزيدٍ من التنكيل بنقابة الصحافيين، قبل أن تجري عملية “إخلاءِ جو” ساعد عليها وزير التواصل نفسه. تعيين اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر كان محطةً ضمن مخطّط، جرى خلالها الدوسُ على القانون، في سياق التحضير للحظة الحالية، التي تمهّد للهيمنة المطلقة.

ومن العجائب أنّ من حملوا لواء “الفوضى” سنوات يتصدّرون لـ”إنهاء الفوضى”، ومن “برعوا” في التفاهة يزعمون بناء “جدار لصدّ التفاهة”. وعجبي أنهم يمهّدون من الآن للحديث عن ضرورة “انسجام مكونات المجلس”، ويقصدون شيئا واحدا شديد الوضوح: لونٌ واحد.

ما سيجري تالياً محكوم بهذه الرغبة المهووسة بـ”الضبط”. إلباس الصحافيين زيّاً موحداً في تغطية نشاطٍ ليس سلوكاً معزولا عن فكرة تسيّطر على الرؤوس وتشكل نمطَ تفكير. يريدون الجميعَ “دمغةً واحدة”. هكذا يفهمون الأمور ضمن ثقافة سياسية تخشى الاختلاف وتعتبره نقيصةً.

مشروع القانون الجديد محكومٌ بهذه المقدمات والعقلية. لم يشعر من صار بيدهم “الحلُّ والعقد” أنهم يحتاجون إلى التشاور. الصحافيون في نظرهم “قطيعٌ” يُساس، والمؤسسات الصحافية لا تكاد تختلف في شيء عن أي شركة لصنع حفّاظات الأطفال. لهذا تجدُ جمعيةَ “باطرونا” تبتلعُ تمثيل الناشرين “صَحَّة”، و”تزيد في العلم حرفاً” وهي تحاولُ فرض نفسها، في نفس الوقت، “مُمثِّلاً للصحافيين”. باغين اللبن، وفلوس اللّبن.

ولعلّ مشروع القانون رقم 26.25 أول مشروع قانون يتعلّق بالصحافة والنشر لم يجرِ التشاور بشأنه، كما يُفترض. يروّجون أنه نتاجُ توصيات اللجنة المؤقتة، المطعونِ في شرعيتها، وقد جرى تعيينها فيما يشبهُ الانقلاب على القانون والسياقات المؤسِّسة للتنظيم الذاتي، وكل تلك الطموحات، ضمن مخطّط هيمنة واسعٍ، يكبر باستمرار في حِجر رأسِ المال.

مشروع القانون المطروح نتيجةٌ طبيعية عندما يكون على رأس وزارة التواصل شخصٌ مثل محمد مهدي بنسعيد. ورحم الله أيام محمد العربي المساري، وكل السياسيين حقيقةً ممن كانوا يرون في نقاش قوانين الصحافة جزءاً من مفاوضة الانتقال إلى الديمقراطية، وليس مجرّدَ نموذج اقتصادي و”قطيعٍ صحافيين” يحتاج إلى ضبط. لا عاقلَ يريد الفوضى وصحافةً ضعيفة مستباحة من غير المهنيين، لكن “ما هكذا توردُ الإبل”، إلا لو كان القصدُ شيئاً آخر.

يفكّر من “يُفكر” بأن “المقاولات الصحفية الكبرى والصغرى والجهوية مثلها مثل فرق كرة القدم، هناك من سيلعب عصبة الأبطال، وهناك من سيلعب البطولة الوطنية، وهناك من سيلعب في بطولة الهواة”. هذه عقلية لا تفهم إلا في رقم المعاملات. لا تنشغل بالحريّة نهائياً. ولا عجب.

كلّ شيء يُفصَّلُ لإيجاد بيئة طاردةٍ للصحافة التعددية، ويؤسس لوضعية تلاشي المقاولات الصغرى والمتوسطة التي تشكل دعامةَ الإعلام في المغرب، والأكثر مِهْنيةً. لن يبقى إلا رأس المال. لهذا فكّروا أنه بديهيٌ منحُ عددِ أصواتٍ عند الانتخاب لمقاولات صحافية بناء على “رقم معاملاتها”. هذا ليس مفصولا عن التوجّه في كثير من القطاعات، من التعليم الخصوصي إلى الصحة، عبر التمكين، بشكل ممنهج، للراساميل الكبيرة ضمن مسار توحّش تبرز معالمه باستمرار. نعيش مرحلة تغوّلٍ واسع، أحد أكثر لحظاته تجليّاً وقوف رئيس الحكومة ليدافع عن استثمار خاص خلال الجلسة الشهرية لمساءلته عن السياسة العمومية. و”الشيء من مُأتاه لا يُستغرب”.

تكادُ مقدمات مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، المكتوبة في النص، والمرصودة في السلوك، تفضح كل شيء. يحاولون التشريع لتحويل المجلس إلى أداة قمع بدل أن يكون ضمانةً للصحافة المِهنية. عبارة رصد “الانتهاكات” أفزعتهم في القانون الحالي فحذفوها في مشروع قانونهم. نوايا الانغلاق تكاد تنطُّ من النص.

مَنْحُ المجلسِ سلطةَ “توقيف إصدار المطبوع الدوري أو الصحيفة الإلكترونية” تعدٍّ خطير آخر. القانون 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر يعتمد التصريح والإيداع (وليس الترخيص)، قبل أن يفكر “العباقِرة” في الانقلاب على روح القانون وفلسفته بمنح المجلس الوطني للصحافة سلطةً من صميم صلاحيات السلطة القضائية، تُفْضي إلى توسيعٍ غير مشروع للاختصاصات.

قصارى القول

السلطة خرجت من الباب في تنظيم قطاع الصحافة، لكنها تكاد تعود من النافذة. لا يجري كل هذا خارج عقل السلطة. ولا أكتب شيئا من عندي، حَمَلةُ مشروع “الضبط” أنفسهم يتحدثون عن أن الدولة كانت تحتاج “شريكا”، ووجدته. المشروع غير منزوعٍ عن سياقِ تراجعات، وهيمنة رأس المال. وهذا من آثار “زواج الثروة والسلطة” قطعاً.

نحن في زمنِ تحوّل “السلطة الرابعة” إلى مجرّد رقم معاملات، وصحافيين بزيّ موحّد كأطفال المدارس. التنميط يتجاوز المظهر والزيّ الموحّد إلى الجوهر: “ضبط” تحريري، بدل التعدّدية الصحافية.