متى تسمع الرباط صرخات الهامش؟

مرةً أخرى يخرج الهامش ليصرخ؛ في مسيرةٍ طويلةٍ تحت شمسٍ حارقة، في وقفةٍ خجولة أمام مقر عمالةٍ نائية، أو حتى في فيديو عابر على صفحات التواصل الاجتماعي. ومرةً أخرى نكتشف أن هذا الصدى غالبًا لا يتجاوز حدود الجبل أو السهل الذي خرجت منه الصرخة.
لكن المشكلة ليست فقط في هذا التردد الضعيف للصوت، بل في الأسباب العميقة التي تجعل هذه الصرخات لا تجد طريقها إلى مراكز القرار، بل تُحاصر في دوائر الهامش ذاته.
المسألة ليست فقط في غياب البنية التحتية أو ضعف الخدمات، بل تكمن أعمق في الأزمة البنيوية التي تعيشها منظومة التدبير المحلي والجهوي. النخب المنتخبة في كثير من المناطق، بدل أن تكون حاملة لمشاريع تنموية حقيقية، تكرّس منطق الربح الانتخابي الآني، وتنجر إلى ممارسات انتهازية تغيب فيها المصلحة العامة لصالح المصالح الشخصية والزبونية.
وهنا يتقاطع الخلل مع ازدواجية واختلال في التوازن بين اختصاصات المعيَّن والمسؤول المنتخب، كما هو واضح في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية. هذا التشابك في المسؤوليات لا يترك هامشًا واسعًا للعمل الفعلي على الأرض، بل يؤدي إلى غموض يعطل تنفيذ المشاريع ويُضعف قدرة المجالس المنتخبة على الاستجابة لحاجيات السكان.
وليس هذا فحسب، بل يضاف إلى ذلك ضعف ثقافة الحكامة والشفافية، حيث تتحول الموارد أحيانًا إلى أدوات لتقوية شبكات الزبونية والمحسوبية، مما يبعد التنمية عن مسارها الطبيعي ويعمّق حالة الإحباط عند السكان. وفي الوقت ذاته، تُهمّش المشاركة الفعلية للسكان المحليين في صنع القرار، بينما تبقى قدرات الجماعات الترابية محدودة بسبب ضعف الموارد البشرية والمؤسساتية.
ومع هذه التحديات المستمرة، أقدمت الحكومة مؤخرًا على إحداث مؤسسة وطنية استراتيجية أُطلق عليها اسم «مغرب 2030»، في خطوة مرتبطة أساسًا بالاستعدادات لتنظيم كأس العالم لكرة القدم. لكن هذه المبادرة، رغم أهميتها الشكلية، تبدو بعيدة عن معالجة جذور الأزمة البنيوية التي تعاني منها مناطق الهامش.
فالاختبار الحقيقي لن يقتصر على تنظيم حدث رياضي عالمي، بل في قدرة هذه المؤسسة أو مؤسسة موازية أن تحقق مغربًا منسجمًا متجانسًا، يشمل شرق المملكة وغربها، شمالها وجنوبها، وليس مغربًا انتقائيًا يوزع التنمية والفرص على مناطق دون أخرى، تاركًا مساحات واسعة تعيش في عزلة وصمت مؤلم.
من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى إحداث مؤسسة وطنية للنهوض بالهامش، تركز على خصوصيات هذه المناطق، وتنسق الجهود للتقليص من الفوارق الاجتماعية والتنموية، وتمنحها المكانة التي تستحقها كركيزة حقيقية لوحدة البلاد.
إن استمرار التمييز بين مركز متقدم وهامش مهمّش لن يشوه فقط صورة المغرب الحقيقية، بل سيهدد بشكل مباشر وحدة المجتمع واستقراره والتنمية العادلة المنشودة.
في هذه اللحظة، وأنا أخط هذه الأسطر التي ترتكز في مضمونها على أفكار ليست بالنادرة عند أهل الاختصاص؛ بل مستهلكة ولكن ذكرها هنا، يأتي تأكيدا على أنها أساس العطب. لأتوجه بعد ذلك، بنداءٍ خاصٍ إلى أبناء الهامش أنفسهم: أولئك الذين غادروا قراهم بحثًا عن فرص أفضل في المدن الكبرى، أو الذين يعملون اليوم في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص.
عليكم أن تكتبوا عن بلداتكم، أن تتحدثوا عنها، أن تبرزوا معاناة أهلها وأحلامها، لأن صمتكم هو صمتهم، وكتاباتكم صوتهم الأبرز.
فكما يثبت خالد تيكوكين، ابن أيت بوكماز، الذي اختار ألا ينسى موطنه، بل ربط اسمه بقضاياه، وقيادته لمسيرة احتجاجية سلمية تطالب بحقوق بسيطة للعيش بكرامة، يمكن لكل واحد أن يكون صوتًا مسؤولًا للهامش.
وأخيرًا، أوجه نداءً إلى أهل المركز: إن كنتم تشتكون من ارتفاع تكاليف المعيشة في المدن الكبرى، فتذكروا أن هناك من يتألم آلاف المرات أكثر؛ من أجل دواء بسيط، أو مدرسة ابتدائية، أو طريق لا يعبره الوحل والثلج. هؤلاء لا يطلبون رفاهًا، بل فقط نصيبهم العادل من وطنهم.
إنها ليست دعوة للبكاء الجماعي، بل نداء لفهم عميق: التنمية الترابية استحقاق دستوري وإنساني لا يحتمل المماطلة، والجهوية المتقدمة ليست مجرد ورقة تزيّن التقارير الرسمية، بل وعد يجب تحقيقه، وإلا ستظل صرخات الهامش تتكرر، بأصوات مختلفة، في كل مكان، وبوجع متزايد.
وهنا، يتوجّه هذا النداء بشكل خاص إلى القلب النابض للمغرب، إلى عاصمتنا الرباط:
يا رباط، يا عاصمة هذا البلد… اسمعي صوت الجبال والسهول والقرى البعيدة.
لا تتركي الهامش يتعلم الصمت أكثر مما تعلّم الكلام.
لا تكتفي بقراءة التقارير القادمة من الجهات، بل اصغِ جيدًا لخطى الناس على طرقٍ لم تُعبَّد بعد، ولصرخاتهم التي تخنقها الثلوج شتاءً والعزلة صيفًا.
افتحي بابًا لعقد جديد مع هؤلاء المواطنين: عقد يُعيد الاعتبار للجهوية لا كورقةٍ إدارية، بل كعدالةٍ مجالية حقيقية، تُوزع التنمية والكرامة والخدمات قبل أن تُوزع الاستثمارات الكبرى.
فالرباط ليست وطنًا وحدها، والمغرب ليس شوارع العاصمة ولا أبراجه العالية. المغرب الحقيقي هو ذلك الذي يسير أبناؤه في صمتٍ كي يقولوا: نريد فقط نصيبنا العادل من هذا الوطن.
شاب من الهامش يقطن بالرباط!