story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ماك ترامب، عراب السلام السريع

ص ص

لم يسبق للعالم الحديث أن عاش فترة من الهدر لقواعد القانون الدولي المعتمد منذ الحرب العالمية الثانية كما يعيشه اليوم. فلأول مرة تمارس القرصنة البحرية بشكل مباشر وبواسطة الجيوش الرسمية لبلد كامل السيادة ضد سفينة بلد آخر في المياه الدولية

الرئيس الأمريكي ترامب يضع قواعد جديدة أو لنقل أسس خروقات جديدة، من حيث التطبيق المزاجي لمفهوم القانون الدولي، والمواثيق التي لا تساوي في عرفه قيمة الجلسات الماراتونية التي توهمت البشرية نجاحها في خلق واقع دولي جديد. من حيث المبدأ، فقد كان وسيظل مع تعاقب الرؤساء الأمريكيين، وزعماء وقادة الحضارات المهيمنة عبر التاريخ مبنيا على فكرة أساسها المصلحة الفضلى للمنتصر، وإن تم تغليفها بأقنعة وردية أو سوداوية حسب السياقات والأمزجة، والهدف المعلن أو المضمر هو الخضوع لسلطة القوي في عالم يموج بحركية فطرية وفق ناموس الأرض منذ أوجد الله البشر فوقها، نحو الهيمنة والسيطرة على الثروات.

أعود للحديث عن صانع السلام او مُقَوْلِب السلام وفق قوالب تتم هندستها تنزيلا لمصلحة الولايات المتحدة الامريكية، واولوية ضمان استمرار هيمنتها. لأجل ذلك، جمع ترامب الرئيسان الكونغولي والرواندي إجبارا، والزمهما بتوقيع اتفاق سلام قسري، لم يتبادلا على إثره تلك الابتسامات الصفراء أو التحايا الكاذبة، وليفتح الطرفان الباب أمام استغلال الثروات المعدنية الاستراتيجية، دونما حل حقيقي لجذور الأزمة المرتبطة بحقوق المدنيين والصراعات الإثنية. حرك ترامب البوصلة شرقا نحو الصراع الدائر حول أكثر من 800 كلم من الحدود المشتركة بين كمبوديا وتايلاند، وشارك في توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين لم يصمد كثيرا بعدما تجددت الاشتباكات، ونتج عن هذا الانزلاق العسكري نزوح أكثر من 600,000 شخص منذ يوليوز الماضي.

عراب السلام السريع، ماك ترامب (على وزن العلامة الأمريكية للوجبات السريعة التي غزت العالم)، قرر بسرعه وقف سلسلة المفاوضات اللامنتهية بين حركة حماس وإسرائيل، واختصر سنتين من الحرب الممنهجة والتدمير الكلي لقطاع غزة في اتفاق وقف إطلاق النار، الذي صرح علانية أنه الفرصة العظيمة لإسرائيل لاستجماع قواها، وتوفير غطاء جديد لانتهاكاتها المتواصلة على القطاع والضفة على حد السواء. اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين الموقع في اكتوبر الماضي، لم يبرح مرحلته الأولى ذات العشرين بندا، ولم تلتزم إسرائيل منها إلا بما يضمن مصلحتها، ومازال مصير المرحلة الثانية معلقا رغم تنفيذ حماس لكل بنود الاتفاق وتسليمها الأسرى أحياء وجثامين حتى لم تتبقى سوى جثة واحدة في القطاع، ليشكل بذلك هذا السلام المدَعى عليه غطاء ورديا لعالم الألفية الجديدة المتطلع للحكومة العالمية وفق المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية، متيحا في الواقع الفرصة لإنتاج المزيد من الوحشية ومناظر الموت المتعدد الأسباب. وصفة ترامب أوقفت إطلاق النار بين الهند وباكستان، لكنه لم ينزع شرارة النزاع، وما زالت القضايا العالقة المتعلقة بتقاسم مياه نهر السند والنزاع حول السيادة على إقليم كشمير براميل بارود، لا تحتاج سوى شرارة بسيطة للانفجار بين قوتي توازن الرعب النووي للبلدين.

يقود ترامب أيضا محاولة فرض اتفاق سلام او لنقل استسلام على أوكرانيا، ويلعب على حبلي الأمن الأوروبي والسيطرة على سوق الطاقة العالمي، بعمليات شد وجذب تتمايل بين التماهي مع الرئيس الروسي بوتين وضرب مصافي النفط الروسي، وفي المقابل محاولة استبدال زيلينسكي وتعرية أوروبا أمام خطر الهجوم الروسي الوشيك.

آخر فصول السلام السريع وعملية الضبط الامريكي همت العمق الاستراتيجي الممتد في القارة الأمريكية. فبعدما نجح ترامب في استقطاب الرئاستين الأرجنتينية والكولومبية، يمارس الآن القرصنة المباشرة في سواحل الكارايبي في افق إسقاط الرئيس الفنزويلي مادورو واستبداله بحاكم جديد يساير طموحات امريكا للسيطرة على أكبر احتياط نفطي في العالم، كل هذا بغطاء وقف تدفق مخدر الفينتانيل ودعم المجموعات المصنفة إرهابية. أخضع ترامب أيضا المكسيك، وأجبرها كما كندا تجاريا رغم منطقة التبادل الحر المفترضة بين البلدان الثلاثة. واليوم تفرض المكسيك رسوما جمركية بنسبة 50% على الصين على الرغم من الأثر التضخمي الكبير المتوقع على الأسعار في كل من المكسيك وحتى في بلده الولايات المتحدة.

خلاصة هذا السرد لسياسة ترامب لصنع وجبات السلام السريعة متشابهة وتستجيب لمنطق تأمين الموارد الاساسية المعدنية والطاقية للولايات المتحدة الأمريكية والسيطرة على مجالها الحيوي والتضييق أيضا على العمق الصيني، العدو الاكثر خطورة على الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الامريكية. نحن نعيش فترة انتقالية لتوزيع الأدوار في دورة التصادم الحضاري، وإعادة تمركز القوى عبر المعمور. فالغرب مجازا وأمريكا صراحة، يحاول الحفاظ على موقعه، والتخلص من معيقات استمرار الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، ولو تمت التضحية بدول أوروبا المثقلة بالمشاكل الديمغرافية والاقتصادية، ويتجاوز في ذلك سردية القوانين الدولية والتشريعات العالمية، نحو مزيد من فرض قانون الغاب والهيمنة والتغول. وفي المقابل تسعى الصين بدورها إلى الاطلاع بدورها المستقبلي كأكبر قوه اقتصادية تعمل على توفير عوامل الردع العسكري للتحكم في عالم ما بعد 2030. وإذا كانت التحولات السابقة لموازين القوى عبر تاريخ البشر قد جاءت بعد حروب دامية، فإن الخوف الجاثم فوق رؤوس البشر في عالم اليوم، يرجع إلى أن الحرب القادمة ستكون سريعة سرعة سلام ماك ترامب، لكن عواقبها ستحتاج عشرات السنين لرتق جروحها.