لماذا تُعدّ المدرسة أساس ومستقبل الرياضة… ممارسة وصناعة!

يتذكر كل منا أول مرة اعتلت الابتسامة وجهه عندما لمس كرة كيفما كان نوعها أو وطأت قدماه ملعبا أو مضمارا، وكم كانت تلك اللحظة مصدر سعادة له، ساهمت في زرع أولى بذور الشغف لديه بالرياضة بشكل عام وأحد مجالاتها بشكل خاص. فغالبا ما كنا نتشارك هذا الشغف مع أبناء الحي أو مع أصدقاء المدرسة، فيتحول مع الوقت إلى هوس بكل ما حولها وبمتعة من الصعب اقتلاعها من وجدان ذلك الطفل الهاوي.
غير أن ذلك الهوس يخفت نوره سريعا مع مرور السنوات، ويتحول إلى ذكرى جميلة يبتسم صاحبها في كل مرة تجتاز مخيلته وبعدها تنقلب تلك الابتسامة إلى وجه عبوس يتحسر على أحلام لم تتحقق ومسار رياضي أجهض قبل ولادته، وذلك لأسباب تكون في غالب الأحيان خارجية وفي أخرى شخصية. رغم كل هذه الصدمات والخيبات، يبقى ذلك الشغف يرافق صاحبه على الدوام، فهناك من يحاول استعادة تلك اللحظات الممتعة بالممارسة الهاوية، وآخرون يكتفون بمتابعة وتتبع رياضاتهم وفرقهم المفضلة من المدرجات أو خلف الشاشة.
فدائما ما تم اعتبار النجاح الرياضي مرتبطا بالممارسة البدنية للرياضة فقط، فكان أغلب الممارسين يلجون مجالات أخرى بعيدة عن الرياضة بعدما تتوقف مسيرتهم لعدم استطاعتهم مسايرة المستوى العالي للمنافسة، أو بسبب الإصابات التي واجهتهم، أو لاختيارهم استكمال المسار الدراسي بعد رفض أولياء أمورهم، الذين كثيرا ما نسمعهم يرددون عبارة “الكورة ما عندها فين توصلك!”. هناك شيء من الحقيقة في هذه المقولة رغم أنها لم تبن على أسباب واقعية. فأغلب الإحصائيات، الآن، تقول أن ما بين 1 إلى 3 من 1000 ممارس فقط من يصلون إلى المستوى العالي ويشاركون في المسابقات الاحترافية. وهنا نتكلم عن دول تتوفر على جميع الإمكانيات والمؤهلات التي تساعد الرياضيين على تحقيق ذلك بالإضافة إلى برامج لمواكبتهم خلال مسارهم.
لكن الواقع تغير الآن ولم تعد الرياضة تقتصر على ممارسها فقط، بل صارت تتعداه إلى جميع المجالات التي يمكنها أن تساعده ليصل إلى مبتغاه. فأصبحت الرياضة صناعة بحد ذاتها، وعندما نقول صناعة، فنحن نتكلم انطلاقا من أول مرحلة: التكوين، مما تستلزمه من وسائل وموارد بشرية ومادية وصولا إلى الممارسة الاحترافية في أعلى المستويات وما تستلزمه أيضا.
هذا كله يجعلنا الآن نتناول هذا الموضوع بشكل مختلف. فكما سلف الذكر أن الكثير من ممارسي الرياضة في فترة الإعدادي والثانوي اختار بعضهم مجالات أخرى لاستكمال مسارهم الدراسي و آخرون لم يحالفهم الحظ فتركوا الدراسة باكرا أو لم يستطيعوا المسايرة بين الدراسة والرياضة، ففضلوا هذه الأخيرة غير أن النجاح لم يكن من نصيبهم.
ألم يكن الأحرى استغلال الفطون الدراسي والشغف الرياضي للفوج الأول في نفس توجهاتهم الدراسية في مجالات أصبحت أكثر من أي وقت مضى لصيقة بالرياضة؟ ألا نتحدث الآن عن مشاكل في التسيير لدى المؤسسات والنوادي الرياضية؟ ألم تعد فرقنا وجامعاتنا تستلزم موارد مالية خيالية من أجل تمويل نشاطها، افتحاصه وترشيده عند الحاجة؟ ألم يصبح الطب الرياضي بجميع مجالاته مكونا أساسيا في جميع النوادي، الأكاديميات والجامعات؟ ألا تحتاج هذه الأخيرة إلى ملاعب، مراكز ومؤسسات تأخذ بعين الاعتبار التقدم التكنولوجي والعمراني المدر للأموال؟ ألا تقوم فرقنا باستخدام علم البيانات من أجل استقطاب أفضل للاعبين وتتبع مستواهم وإمكانياتهم على طول الموسم؟ ألا تحتاج رياضتنا الوطنية إلى إعلام قوي يعرف كيف يسوق منتوجها؟……؟
وبالنسبة للفوج الثاني، لماذا ضاع مستقبلهم ولم نستفد من تجربتهم الرياضية من خلال الممارسة الحقيقية؟ ألم يكن بالإمكان أن يتم توجيههم إلى التدريب الرياضي بموازاة مع ممارستهم البدنية؟ ألا تعاني بطولاتنا في الوقت الحالي من مشاكل عديدة في التحكيم، ألم يكن بالاستطاعة تكوين هؤلاء الممارسين ومشاركتهم كحكام في الفئات الصغرى؟ وبهذا نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد، فنضمن به مستقبل رياضيٍّ وفي نفس الوقت يكون حكامنا قد اكتسبوا تجربة كبيرة رغم صغر سنهم! ألا نعاني من سوء التنظيم في مدرجاتنا، ونحن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى ما يطلق عليهم بالفرنسية “Stadiers” من أجل توفير ولوج سهل وسلس للمشجعين والتزامهم بمقاعدهم، خصوصا وأننا مقبلون على تظاهرات رياضية كبيرة؟ أليس من مارس الرياضة وعاش شغفها أقرب من فهم ما يدور في مخيلة المشجع وقادر على التواصل معه بنفس كلماته؟ ….؟
فكيف يمكننا تحقيق كل ما سبق؟ لن يتأتى لنا ذلك إلا إذا أصبحت المدرسة أساس الممارسة الرياضية، فتكون أول مكان يتعلم فيه الطفل أبجديات الرياضة ممارسة وروحا، وأول مركز تكوين لا يتطلب موارد مالية وبشرية كبيرة، حيث يتابع دراسته ونشاطه الرياضي في نفس الوقت، دون عناء التنقل بعيدا عن منزله وخارج مدرسته من أجل التمرن. هذا كله سيسمح للتلميذ الرياضي، من جهة، أن يستغل أوقات الفراغ في التمرن داخل المدرسة في محيط تربوي آمن. ومن جهة أخرى، سيسمح للمدرب والمدرس من تتبع المسارين الدراسي والرياضي للتلميذ والتوافق أحيانا فيما قد يكون أفضل له.
ولن يتأتى ذلك إلا إذا لم يقتصر دور أستاذ التربية البدنية على تعليم كيفية ممارسة النشاط البدني والتدريب فقط، فيتجاوزه ليصبح مربيا وخصوصا موجها، يساعد التلميذ على بناء رؤية شاملة للممارسة الرياضية وأنها لا تقتصر فقط على الجانب الجسدي بل تتعداه إلى ما هو فكري. وبذلك، تصبح حصة التربية البدنية من خلال التوجيه العلمي أساس بناء منظومة رياضية شاملة تستطيع أن تنتج لنا لاعبين من المستوى العالي، مدربين، حكام، مسيرين أكفاء، أطباء واقتصاديين ومهندسين متخصصين، بالإضافة إلى إعلاميين ومدونين، يساهمون جميعهم في تطور والرفع من جودة رياضتنا، دافعهم الوحيد هو حبهم وشغفهم باللعبة.
ولن يتأتى ذلك أيضا إلا إذا أصبحت الجمعية الرياضية المدرسية بمكتب مستقل، تسير نفسها بنفسها، وتصبح ذات وضع خاص باعتبارها ناديا يمارس ضمن عصب وبطولات الهواة، وبميزانية خاصة لكي لا تبقى رهينة بما تجوده عليها المدرسة والأكاديمية التابعة لها. ولا تكتفي بفترتين فقط في الأسبوع بل يتم وضع برنامج شامل لفائدة جميع الفئات والرياضات على مدار الأسبوع.
إذا كنا نريد أن تكون الرياضة رافعة للتنمية، للاقتصاد وللتطور فذلك يجب أن يبدأ بالعنصر البشري أولا، المتمثل في التلميذ والمدرس، وبالمدرسة والمؤسسات ثانيا، وبالعنصر التشريعي ثالثا والمتمثل في وضع سياسات رياضية، تربوية، تعليمية واجتماعية نستطيع من خلالها بناء رياضيي الغد، كفيلين بإنجاح جميع التظاهرات والفعاليات التي تطمح إليها بلادنا.