story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

لإنزال الراية السوداء عن بيت الزفزافي

ص ص

ناصر الزفزافي، محمد جلول، محمد حاكي، سمير اغيذ، زكريا أضهشور، نبيل أحمجيق.
سلام عليكم في سجنكم الذي طال أكثر من اللزوم.

وبعد،
خرج ناصر الزفزافي لدفنِ والده. القرار رُبْعُ حكمةٍ. وكل الحكمةِ في إنهاء سجنه.
أُخرِج ناصر من معتقله لتوديع فقيده، وذلك حق قانوني وأقلّ الواجب. الواجبُ كاملاً حرية.
خرج ناصر ولم “يعضّ” الدولة. وكم خوّفوا منه، وهوّلوا، حتى رموه في السجن.
لم يظهر أنه “مصّاص دماء” وعدوٌ كما قال محرّضون مهنتهم التشهير، ولا يزالون.

من سطح منزل عائلته في الحسيمة شكر مندوبية السجون. وبالتّبع شكر الدولة. والقول يتجاوز فضيلة الشكر إلى تصريح واضحٍ بأنه لا يرفض الدولة جملةً، ولا يعادي الوطن. كان دوما تحت سقف الوطن.

كل “تهمته” أنه رفض سياسات همّشت الريف، وصرخ كما يليق بمواطِنٍ لم يرَ الوطن مقبرةَ موتى.

الملك محمد السادس من خلال قرارات عزل مسؤولين حكوميين وترابيين، أقرّ بأنّ هناك فشلا، وأكد ما أغضب سكان الريف، ولم يقل “العام زين”. قرر إعفاء وزراء في حكومة سعد الدين العثماني، هم محمد حصاد ومحمد نبيل بنعبد الله والحسين الوردي والعربي بن الشيخ، ومدير عام للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب علي الفاسي الفهري. كما قرر عدم إسناد أي مهمة رسمية مستقبلا للوزراء رشيد بلمختار ولحسن حداد ولحسن السكوري ومحمد أمين الصبيحي وحكيمة الحيطي، فضلا عن معاقبة 14 مسؤولا إداريا (بلاغ 24 أكتوبر 2017).

بعد كل هذه السنوات، ومن سطح منزل عائلته تحدث ناصر عن الوطن، من صحرائه إلى شماله، شرقه وغربه. أخذ الكلمة ليُصرِّح عن نفسه، بعد أكثر من ثماني سنوات سجناً، أنه ليس انفصالياً. فـ”نحن أبناء هذا الوطن، ولا أقصد بالوطن الريف فقط، بل كل شبر من بلادنا”.

المشّاؤون بتحريض زعموا أن حراك الريف الذي كان يتزعمه الزفزافي انفصاليٌ. لعِبوا على “الوتر الحسّاس”، فالدولة تكره حديث الانفصال، وأيضا لا يتحمّله وطنٌ يعاني من دعاوى الانفصال المخبولة في الصحراء المغربية.

لعِبَ المحرّضون بعقل الدولة، وحوّلوا الزفزافي من ضحية تهميش غاضب، إلى مجرم انفصالي وعميل للخارج.

الدولة واجهت في الريف الفراغَ السياسي والتهميش الاجتماعي والصوت المرفوع من ناصر ورفاقه. واجهت فشلها في التنمية بالفزع من حراكٍ طموح وجانح، معتدّ بنفسه وبتاريخ المنطقة. وعندما تَفْزع السلطة يذهب عقلها وتفقِد الاتزان. لذلك لجأت الدولة الفَزِعَة إلى “آخر الدواء: الكيّ”.

لم تكن هناك أحزابٌ ولا نقابات، فلم تجد الدولة غير الأمنِ لـ”محاورة” الغاضبين، دفاعا عن “هيبتها”.

ومن مأساة فراق والده، والاستعداد لدفنه، وتلقّي التعازي، وبعد سنوات الاعتقال الثماني، لم يخطئ ناصر الزفزافي، ولم يُخلف موعده مع الاتزان. هتف “عاش الوطن” أمام المحتشدين الذين يرونه أيقونةً، بعد أن حدّد جغرافيا الوطن كاملةً غير منقوصة.

والآن، أين يدير السياسي والأستاذ الجامعي والصحافي وغيرهم ممن رموا حراك الريف بالانفصال وجوههم؟. يعلمون أنهم وفّروا غطاء سياسياً وإعلامياً لقمع حراك الريف واعتقال قادته.

نفس المحرّضين لا زالوا يقومون بأدوار الشرّ ذاتها. لم يتعلّم أحدٌ أن ما يفعلونه يؤذي، وأنه تجرّدٌ من الإنسانية حين يستلُّ الصحافي والمحامي والجامعي والسياسي أسلحتهم الدعائية الفتّاكة للوسوسة في أذن دولةٍ، لا يزال فيها من مرض السلطوية، ضد مواطنين يطالبون بالكرامة. والكرامة واجبُ الدولة، حقٌ للمواطنين.

كل من حرّضوا ضد الزفزافي، وقبل الزفزافي وبعده، يعلمون أنهم يسيئون لوطنٍ تحتفظ ذاكرته عميقاً بمعنى الصواب والخطأ، والعدل والظلم.

شباب الريف ظُلموا مرتين: بالتهميش، وبالقمع الذي تعرّضوا له، وفيهما معاً دفعوا ثمناً، ولا يزالون.

حراك الريف كان من تحديات حكم الملك محمد السادس، ويمكن أن يوضع إلى جنب هجمات 16 ماي الإرهابية، والربيع العربي وصداه 20 فبراير في المغرب. هزّ الحراك المشهد، وكشف عن أوجه قصور لم تكن السلطة (التي تحتفظ ذاكرتها بتاريخ غير ودّي مع المنطقة) مستعدةً أن تسمع بشأنها عبر صوت غير مألوفٍ ومزعج وصريح كفايةً ليسمّي الأشياء بأسمائها “السافرة”. عبّر ناصر الزفزافي عن تلك الجموع بفصاحةٍ، ومرات بكثيرٍ من “الركاكة السياسية” والخطأ في التعبير والسلوك، الذي خوّف وشوّش، وقطع حبل التواصل، وأنشأ كثيراً من سوء الفهم.

ناصر الزفزافي فعل ما تستوجبه مواطَنَتُه، وما تضمنه حقوقه، وإن أخطأ في تفاصيل. لكن الدولة ملزمة بالاتزان، والتعقّل، وإنزال العقاب (على من يستحق) بالعدل، دون سادية.

قد يخطئُ المواطنون، ولكن خطأَ الدولة مكلفٌ. في قضية الريف أخطأت الدولة أيضا، وغلّبت “الحزم” حين عجزت عن ترتيب حوار منتج مع جزءٍ من الشعب. ثم أتت كل تلك الإدانات التي وزّعت قروناً على مئات الشباب.

المغرب بلد لا يزال يمشي حَبْواً إلى الديمقراطية، ولم يقطع “الحَبْل السرّي” مع السلطوية، ولا يعدمُ قطّاع طرق، منتفعين من الركود يزوّقونه استقراراً، ومن الرّيع يسوّقونه تنمية، ومن فسادٍ صار يخرجُ بوجهٍ سافرٍ حتى من منبر البرلمان. ولذلك لا يزال يرسبُ مراتٍ في امتحان الحريّة.

هنا، لن نمرّ دون إقرارٍ بأجزاء مملوءة من كأس الوطن، كالسماح للزفزافي بحضور جنازة والده بشكل لائق خالٍ من التقييدات المهينة، وقبل ذلك زيارته في المستشفى، وأيضا تمكينه من إلقاء “بيان سياسي”، وتفادي تحشيد قوات الأمن فوق المطلوب. لكننا يجب أن ننظر كذلك، من موقع الصحافي، في الجزء الفارغ منه، على قاعدة أن “القناعة من الحريّة حرمان”.

قصارى القول

كثير من المغاربة تعاطفوا مع الزفزافي وأحمجيق وجلول وحاكي واغيذ وأضهشور وكل معتقلي الريف، ولا يرونهم مجرمين، ويعتقدون أنهم سجنوا ظلماً، وأنه يجب أن يُطلق سراحهم. كان يؤمل أن يُطلق سراحهم جميعاً قبل أن تطول سنوات الحبس، وتصير المناشدات فواصلَ على هوامشِ الموت والمرض بين أهالي المعتقلين.

خلال كلمات الزفزافي قبل تشييع والده ترفّع وتجاوز، ولم يبدُ حاقداً. تحدث بأفقٍ وطني واضح. قال بوضوح إنه “لا شيء يعلو فوق مصلحة الوطن”، و”نحن مستعدون لنقدم دماءنا على كل شبر من هذا الوطن”.

الآن، وجب أن نقول بوضوح ليتأسّس عليه قرار مأمول: ناصر خرج للاحتجاج من أجل العيش بكرامة في الريف، وليس لأجل وطنٍ في الريف.

نختصر الكلام: لا مدخلٍ لإطلاق سراح من تبقى من معتقلي الريف إلا بعفوٍ ملكي. الطريق واضح. والكلام يتوجّه رأساً إلى مواطِنِه المُسْتَحَقَّة والمُسْتَحِقَّة والقادرة، مع كل الآمال التي لم تنقطع في النبل والتسامي، وبما يليق بملكٍ لم يتردّد أكثر من مرة في اتخاذ القرار الصواب. قرار جديرٌ بملكٍ يستهلّ خطاباته بـ”شعبي العزيز”. والذين شيّعوا الراحل أحمد الزفزافي هتفوا: “الشعب يريد إطلاق المعتقل”.