story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

فلسطينُ المغاربة

ص ص

عندما حطّت الطائرة التي أقلّت الصحافي المغربي محمد البقالي من تل أبيب إلى باريس يوم الاثنين 28 يوليوز 2025، بعد توقيفه ضمن ركّاب سفينة “حنظلة” التي كانت تسعى إلى كسر الحصار عن غزة؛ لم يكن يعلم أن عملية بسيطة مثل فتح هاتفه الشخصي ستكون لحظة انكشاف لحقيقة كبرى.

هاتفه الذي تركه عند أحد أصدقائه قبل الإبحار، كان محمّلا بآلاف رسائل التضامن، والدعوات، والمقالات، والتصريحات، والصور، ومقاطع فيديو… كلها تشهد على موجة تضامن عارمة، تتدفق من كل أنحاء المغرب، من يساره ويمينه، من قراه ومدنه، من ناسه العاديين ونخبه المختلفة.

قال محمد البقالي حينها، بعبارة تختزل كل شيء: “الآن عرفت لماذا هناك باب يحمل اسم المغاربة في القدس”. ولم يكن يقصد فقط تاريخ المغرب في حماية القدس، بل الحاضر الذي يثبت أن الرابط لم ينقطع، وأن المغاربة لا يملكون ترف الحياد حين يتعلّق الأمر بفلسطين.

لكن القصة لا تقف هنا، ففي مقابلة تنشر لنا مع محمد البقالي، تنشر قريبا، كشف الصحافي أنه لم يكن وحده في لحظة التوقيف والتحقيق. وبعيدا عن موجة التضامن الشعبي، كانت هناك متابعة دبلوماسية رسمية مغربية حثيثة.

عبد الرحيم بيوض، رئيس البعثة الدبلوماسية المغربية في تل أبيب، كان أكثر الممثلين الدبلوماسيين لحكومات الموقوفين، حضورا ومرافقة، بل أصرّ على مواكبة التحقيق، ومنحه هاتفه ليكلّم والدته، ثم تابعت القنصلة المغربية الاتصال بالأم الخائفة على فلدة كبدها بشكل دوري لطمأنتها، بل إن بيوض نفسه كان في انتظار البقالي عند بوابة الطائرة قبيل ترحيله، ليشرف شخصيا على كل الترتيبات، حتى لحظة الإقلاع.

وستشاهدون بأعينكم كيف حرص البقالي على شكر الدبلوماسيين المغاربة ووزارة الخارجية، في وقت استكثر عليه بعض المهزوزين حتى استغاثته ببلده لحظة اختظافه.

هذه التفاصيل ليست مجرد مشاهد إنسانية عابرة. بل تمثّل خيطا من المفارقات العميقة في علاقة المغرب الرسمية والشعبية بفلسطين. تخيّل فقط: دبلوماسي مغربي رسمي يودّع البقالي المعتقل من طرف القوات الإسرائيلية من المياه الدولية، في مطار تل أبيب، بينما أبرز مناضلي الحراك الشعبي ضد التطبيع، مثل أحمد ويحمان وعبد الحفيظ السريتي، كانوا في استقباله عند بوابة مطار محمد الخامس بالدار البيضاء.

مشهد لا يمكن إنتاجه إلا في المغرب. الدولة التي اختارت مسار التطبيع في سياق معروف ومعقّد، هي نفسها التي تحتضن أكبر مظاهرات التأييد لفلسطين، وترسل مساعدات غذائية وطبية حقيقية، غير رمزية، تصل سالمة عن طريق البرّ إلى قطاع غزة، وليس فقط عبر عدسات الكاميرات أو الطائرات التي تُلقي بالشحنات من الأجواء.

فبينما يُدرج المغرب في خطابات بعض التيارات ضمن “معسكر التطبيع”، ها هي وزارة الخارجية تُعلن، بتعليمات ملكية مباشرة، عن إرسال 180 طنا من المساعدات إلى غزة: مواد غذائية، وحليب للأطفال، وأدوية، وتجهيزات طبية وجراحية، وأغطية وخيم… بل وأكثر من ذلك، اختيار مسار خاص لإيصال هذه المساعدات بشكل سريع ومباشر إلى داخل القطاع.

لا أحد يدّعي أن هذا يبرر التطبيع أو يغسل خطيئته. لكن من لا يرى هذا المشهد المركّب في صورته الكاملة، يقع في فخّ الاختزال الأيديولوجي، ويصرّ على منطق “ويل للمصلين”، ويرفض أن يكون موضوعيا ومنصفا.

ولعلّ المقارنة مع الجارة الجزائرية، رغم أنها حساسة عند البعض، تكشف درجة تعقيد المشهد. جارتنا تُقدَّم كدولة “مناضلة” ترفض التطبيع من حيث المبدأ؛ لكنها في المقابل لا تقدم دعما حقيقيا ملموسا لسكان غزة، ولا تسمح لشعبها بالاحتجاج أو التعبير عن تضامنه بحرية.

بينما المغرب الذي يلام (عن حق) على التطبيع، لا يزال يحتضن الوقفات والمسيرات والمنتديات الداعمة لفلسطين، من دون منع ولا قمع. والمساعدات التي يرسلها لا تُقذف من السماء، بل تُسلم باليد، وتصل إلى أصحابها.

هل نحن أمام حالة نادرة من “الاستثناء المغربي”؟ ربما.

لكن الأهم أننا أمام علاقة لا تفسّرها فقط المواقف الرسمية أو الاتفاقات الدولية، بل تاريخ طويل من التداخل بين فلسطين والمغرب، في الثقافة، والرموز، والهوية، بل وحتى في الوجدان الشعبي.

هذا ما عبّر عنه محمد البقالي، دون تكلّف أو سابق تحضير، وهو يربط لحظة شخصية خاصة باسم “باب المغاربة” في القدس.

هنا، لا تعود فلسطين مجرّد قضية خارجية. بل تتحوّل إلى مرآة تكشف أخلاقنا، وتناقضاتنا، وقدرتنا على التضامن، واستعدادنا لأن ندفع ثمنا، ولو رمزيا، من أجل ما نؤمن به.

وفي قلب هذه العلاقة، يقف المغرب، بكل مفارقاته، وهو يمسك بهذا الخيط المتين الذي لم ينقطع، حتى عندما قرّر أن يمدّ خيوطا أخرى نحو “تل أبيب”.

هل يمكن للمغاربة أن يواصلوا هذا التوازن المستحيل؟

هل يمكن أن تبقى فلسطين حية في القلوب، رغم كل هذا الالتباس الرسمي؟

الأكيد أن شعبا يبني بوابة له في قلب القدس، ويكتب اسمه عليها، لا يمكن أن يغادر هذه المعركة، حتى لو خذلته الجغرافيا والسياسة.

ولعلّ أجمل ما في هذه القصة كلّها، أنها لا تُروى من فوق المنصّات، بل تُكتب في صمت، بهواتف محمولة تُفتَح بعد الترحيل، برسائل قصيرة تطمئن أمّا مفزوعة، وبمساعدات تصل رغم الجدران، وبوجه سفير يقف عند بوابة الطائرة، حتى لا يبقى المعتقل وحده.

هكذا فقط نفهم أن فلسطين ليست مجرّد أرض محتلة، بل مرآة نقيّة…

من تأمّل فيها رأى صورته الحقيقية.

وأن فلسطين التي في قلوب المغاربة ليست هي فلسطين التي تُتنازع في خرائط الجغرافيا أو تُساوَم في موائد السياسة. إنها فلسطينٌ أخرى، لا تُقاس بالمسافات ولا تُحدّ بالحدود.

فلسطينُ المغاربة امتدادٌ لوجدانٍ قديم، تسرّب عبر الأزقّة العتيقة للمدن، وتربّى في صدور الأمهات، وكتبَه التلاميذ على دفاترهم المدرسية، وردّده المنشدون في مواسمهم الشعبية، وتلقّفه شباب قاربوا البحر كي لا يصمتوا.

فلسطينُ المغاربة هي تلك التي لا يعرفها سواهم، لأنها تشبههم وحدهم: في طريقتهم الغريبة في الغضب، وفي دمعتهم الحارة التي لا تبغي مقابلا، وفي تضامنهم الذي لا ينتظر توجيها ولا ترخيصا.

تلك هي فلسطين المغاربة.