غموض وأجور منخفضة وضغط نفسي.. تقرير يكشف واقع مراكز النداء بالمغرب

المعطيات الملتبسة حول أعدادها بالمغرب، ركود التشغيل وتجمّد مناصب الشغل، تدهور الأجور مقارنة ببدايات الألفية، ثم الاستنزاف النفسي وضغط الأداء المسلَّط على العاملين.. كلها مشاكل تتخبط فيها مراكز النداء بالمغرب، التي سُوِّقت لسنوات كقاطرة للتنمية، وفق ما يكشفه تقرير حديث أصدره المجلس المدني لمناهضة جميع أشكال التمييز بشراكة مع معهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان.
التقرير المعنون بـ:”مراكز النداء في المغرب: هشاشات نيكولونيالية وأشكال جديدة للدفاع النقابي الذاتي” أوضح أن أولى هذه التحديات ترتبط بالغموض حول حجم القطاع وانتشاره، ففي حين أحصت الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات 620 مركزاً مرخَّصاً سنة 2020، يؤكد فاعلون نقابيون عن الاتحاد المغربي للشغل وجود مئات المراكز الأخرى التي تعمل في الخفاء: “إنها مؤسسات تنشط خارج القانون، مستفيدة من ضعف المراقبة وفراغ تشريعي يحول دون ضبط حقيقي للقطاع”.
وحتى عند الحديث عن الرقم 800 الذي يشير إليه النقابيون، يضيفون أنّ “الفاعلين في القطاع لا يعرفون فعلياً سوى حوالي خمسين مركزاً فقط، وهي الكبيرة أو المتوسطة التي تلتزم تقريباً بقوانين الشغل والتصريح لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS)، أما البقية، فلا تتوفر معلومات دقيقة عنها، وحتى الدولة، عبر وزارة التشغيل، لم تُنجز بعد أي دراسة موثوقة حول هذه المراكز”.
هذا التباين في الأرقام لا يقتصر على الهياكل وحدها، بل يمتد إلى العاملين في هذا المجال، فبينما تُعلن الأرقام الرسمية عن وجود نحو 100 ألف موظف سنة 2025، يشدد النقابيون على أنّ هذا الرقم لا يعكس الواقع، فتقديراتهم تتجاوز 150 ألف عامل إذا أُخذت في الحسبان الشركات غير المصرح بها.
الأجور تشكّل مرآة أخرى لهذا التدهور، ففي مطلع الألفية، كان الموظف المبتدئ يتقاضى بين 4000 و7000 درهم، وهو ما كان يعادل أجراً محترماً يقارب سلم 11 في الوظيفة العمومية، أما اليوم فلا تتعدى الرواتب الصافية 3800 درهم، وقد جُمِّدت الزيادات منذ سنوات، حسب معطيات التقرير.
الانحدار لم يكن تدريجياً فحسب، بل كان “ممنهجاً”، فبعد أزمة 2008، “اختارت الباطرونا سياسة خفض التكاليف عبر تقليص الأجور، واستُبدلت آمال الترقي المهني بواقع من الجمود، حيث تتساوى الرواتب تقريباً بين مختلف المهام، دون حوافز تُذكر أو آفاق للتطور”.
وفي ظل هذا التراجع، أوضح التقرير أن الشركات اتجهت إلى تغيير أهدافها في التوظيف، فإذا كانت في البداية تستقطب أصحاب شهادات عليا، فإنها اليوم تميل إلى تشغيل أصحاب مستوى الباكلوريا فقط، شريطة إتقان اللغات والابتعاد عن النزعة الاحتجاجية، لتوسع بذلك التوظيف الكمي على حساب النوعي، وتزيد من هشاشة العمالة.
النتيجة كانت انفجار “معدل دوران” اليد العاملة، فحسب النقابيين، يغادر نحو نصف الموظفين خلال سنة واحدة، ما يجبر الشركات على التوظيف والتكوين باستمرار، لا لتطوير المهارات، بل لتعويض النزيف المستمر، ما يكشف أن القطاع لا يخلق وظائف جديدة، بل يعيد إنتاجها باستمرار.
هذا الاستنزاف ترك أثرا نفسيا واجتماعيا عميقا، حيث أن الضغوط المفرطة، سباق الأداء، والإرهاق النفسي باتت السمات الغالبة على يوميات الموظفين، بينما لا تزال الخطابات الرسمية تتغنّى بـ”المساهمة في التشغيل”، متجاهلة التكلفة البشرية لهذه المعادلة المختلة.
يتابع المصدر ذاته، أن جائحة كوفيد-19 زادت الطين بلة، إذ أن العمل عن بُعد، الذي بدا في البداية كوسيلة للمرونة، تحوّل إلى أداة مراقبة صارمة، رافقته عزلة خانقة، حيث أن بعض الشركات ضاعفت عدد موظفيها من دون الحاجة إلى مقرات جديدة، ما زاد أرباحها، لكن لم ينعكس ذلك على أجور العاملين.
في الوقت نفسه، اكتسح الذكاء الاصطناعي مجال العمليات، فقد جرى أتمتة المهام التكرارية تدريجياً، وحلت الخدمات الرقمية محل المكالمات الهاتفية التقليدية، ولم يصاحب هذا التحول أي تخفيف للضغط على العمال، بل سرّع من وتيرة الاندماجات والاستحواذات التي أزاحت الفاعلين الأضعف.