غزة.. وما بعد بعد غزة

منذ مدة لا أقدر على الكتابة عن كل الجاري في غزة وعموم المنطقة. تسارعُ الأحداث يُصعِّب التقاط خيطٍ، مع قناعة أننا بصدد حالة تفاعلٍ تحتاج وقتا قبل الاستواء على وضعية يمكن الركون إلى قراءة بشأنها.
ورغم ذلك، لم أغادر في قراءتي حقيقةً واحدة: طوفان 7 أكتوبر غيّر وجه المنطقة، ويصنع مستقبلا جديدا.
يوم 7 أكتوبر يليق به وصفُه ( على الأقل منذ هجمات 11 شتنبر)، أنّ ما قبله ليس كما بعده. هجوم حماس سحب الجميع إلى ديناميات جعلت قضية الفلسطينيين في قلب التحولات المتفجّرة والفجائية في المنطقة.
لم تترك عملية 7 أكتوبر أحداً على الحياد. وحتى عدم الاكتراث موقف. زلزال بارتدادات لم تتوقّف، ولا يُعلم متى تتوقف.
لم يعد أحدٌ كما كان بعد تلك المشهدية المُقاوِمة في مسار تحرّر الشعب الفلسطيني، الذي كادت تتحوّل قضيته إلى مجرد ملف إنساني تنموي بعد كل ذلك “التطهير” لإسرائيل بمياه اتفاقات التطبيع، و”التظهير” بصورة الدولة الطبيعية.
7 أكتوبر جوابٌ نقَلَ قضية الفلسطينيين، بعد محاولات التغييب، إلى مساحة الواجب الأخلاقي والقانوني لتصفية الاحتلال واستعادة الحق في الأرض.
600 يوم من التاريخ المكثّف، حيث تشهد فلسطين وضعاً جديدا في مسار مواجهة الاحتلال، ويعيش لبنان مخاضاً نحو “الدولة السيّدة” داخلياً، لكن دون سيادة خارجياً، ووفق الهوى الإسرائيلي. وسوريا، التي غيّرها الطوفان، نحو “الوطن الواحد الجامع” وهي تتخفّف من عقود دموية نظام الأسد، دون أن تُطَمْئِن إلى الآن أنّ السلطة الجديدة لكل السوريين.
و”يمن الحوثيين” يصنع وضعاً يُفاجِئُ بكل ذلك الإصرار على عدم إنزال اليد، ويفرض معادلات جديدة تمتدّ إلى ما بعد انتهاء حرب غزة، في علاقة بالرياض وأبوظبي أساسا، وذلك الصراع اليمني المؤجّل. أما إسرائيل، بعد سنة و8 أشهر، تحارب على أكثر من جبهة، لكن أشد معاركها قسوة تُخاضُ في أرض السردية وتآكل الصورة.
على الحواشي، مصر بكل ترهّلها والمخاطر، وتقزيم الدور والتاريخ والجغرافيا. والأردن الذي ينام على حقلِ ألغام سياسية وديمغرافية، ويبحث باستمرار عن كيمياء استقرار عسير. وتركيا تمشي على أكثر من حبلٍ، وتناور مستثمرة في الفوضى لتحسين وضعها وتحصين مواقعها كقوة إقليمية. فيما دول الخليج، بثقلها المالي، تؤدي دور ضابط إيقاع ومسهّل ترتيبات بالوكالة، وباني توافقات في منطقة لا تُغادرها الحروب. إيران تخسر ولا تنهزم، ولا تزال تُفاوض، بشطارة التاجر، لأجل مصالحها، ونفوذ إقليمي مهدّد.
أمريكا ترامب تخلط أوراق الجميع، وتطلب “بعض الهدوء” بعد 18 شهرا من التوتّر العالي. ضمن مناورة أشمل ترفع كل السقوف: تطرح الفكرة المُربِكة “غزة دون غزّيين”، وتفاوض حماس لإنهاء حالة حماس، وتضغط على إسرائيل لتبقى إسرائيل، بعد كل تلك الورْطات الناشئة عن 7 أكتوبر. تحاول استعادة السيطرة بعدما فقدت تل أبيب السيطرة. وتسعى لتحمي إسرائيل من نفسها ومن وحش التطرف الكامن في سلطتها السياسية، والمنفلت منذ 7 أكتوبر. وعلى وقع انكماش حزب الله، تسعى واشنطن لأن ترسم مسارا للبنان خارج كل المعادلات الإقليمية، وأيضاً العباءات، الإيرانية السعودية الفرنسية، إلى وصاية إسرائيلية أميركية، تحت أزعومة السيادة ( المنتهكة إسرائيلياً)، وحصرية السلاح في دولة لا تملك سلاحاً إلا سلاح المقاومة. وتقبل بسوريا “متعاونةً” و”مُنْكَفِئةً” ومنشغلة بنفسها، سوّقتها الرياضُ على طاولة صفقات الملايير المعلومة.
زيارة ترامب لدول الخليج (السعودية وقطر والإمارات) كانت تكثيفَ التكثيف لكل هذا التاريخ، وحركةً لإعادة تشكيل المشهد وإظهار حقائق جزئية عن طبيعة الفائزين والخاسرين إلى الآن. طغت الصفقات وأحاديث الملايير، وأشبعت دول الخليج شهوة الـshow لدى ترامب، لكن أهم ما جرى كان إعادة ترسيم مشهد المنطقة وفق عناصر قراءة جديدة تستند لحقائق مستجدة من آثار 7 أكتوبر.
في تقدير سريع للموقف، يجوز القول إن إسرائيل، خارج سطوة المتطرفين والدمويين، تدرك، أكثر فأكثر، أن الإبادة الجماعية لا تصنع انتصارا، وأن طوفان الأقصى بدّد كل تلك الأكاذيب المؤسَّسة عن “جنة الديمقراطية في منطقة قاحلة ديمقراطيا”، وعن “الجيش الأكثر أخلاقية”. الإبادة أفقدت دولة الاحتلال الإسرائيلي الحقّ في النيابة عن اليهود للحديث عن الهولوكوست بعدما صنعت محرقتها الخاصة في غزة.
حماس والمقاومة تدرك، بدورها، أن لا خيار غير البقاء وقوفاً والتفاوض لحماية ما تبقى، وأن تقدير كُلفة الحرب يجب أن يكون جزءاً من الإعداد بعد كل تلك الخسائر الفادحة. وسوريا الجديدة المتحرّرة من حكم الأسد الوحشي تعي، بثقل التاريخ، أن وضع البيض في سلة واحدة (تركية) خسارةٌ. ولبنان يُكافحُ ليعود دولةً، وهو ينظر في الجاري مع حزب الله المتضرّر من “تعرّيه” لإسرائيل في سوريا. وإيران إلى صفقة مع ترامب على قاعدة “عدم خاسر/ رابح”. وفي الخلفية، أميركا لا تنسى، وإنْ نسيَ كل العالم، تلك الليلة التي سقطت فيها صواريخ على إسرائيل بكل ذلك التحدي، الذي لو جاء مفصولا عن سياق إبادة غزة، ودون حماية تحالف دولي/ عربي لإسرائيل، لكان تاريخاً لوحده. وعلى هذا أيضا تنهض طهران للبقاء لاعباً إقليمياً، وإن أُخضعت لعمليتي “تقليم أظافر” و”إنقاص وزن”.
تركيا تجيد الحساب، ولا تزال قادرةً على مفاجأة كل اللاعبين. مصالح أنقرة تتقاطع من واشنطن إلى موسكو وتل أبيب، وتحاول أن تأخذ سوريا في الجيب، فيما تعدّل الرياض في إعدادات الصورة ونصّ الإخراج، حين رتّبت لتلك المصافحة “المُكلفة جداً” بين أحمد الشرع ( الجولاني المُعاد تدويره) وترامب، فيما شارك أردوغان في “الحدث” من بعيد، عبر تقنية الفيديو. تركيا تدفع من حساب الآخرين على فواتير تاريخها وموقعها، وقد انتزعت “تسويةً” درامية للملف الكردي، وذلك الإعلان التاريخي لعبد الله أوجلان، وما تلاه من حلّ حزب العمال الكردستاني لنفسه، ومواقع متقدمة في سورية والعراق (قصة الوجود التركي فوق الأراضي العراقية وتنفيذه عمليات عسكرية ليس سرّاً)، والحضور في أكثر من ملف دولي وإقليمي.
لعبة الدومينو المتحركة منذ 7 أكتوبر مستمرة. وما يعني منشغلا مثلي بفلسطين أن يرصد كيف تضعف دولة الاحتلال الإسرائيلي باستمرار، مؤسِّسا هذا الانشغال على حقيقة واحدة: لا مجال لمحو لبنان عن الخريطة، ولا لشطب سورية، وأنّ تركيا ستبقى، ودول الخليج على أراضيها، ولا يمكن رمي إيران في البحر، ولن يقدر أحد على محو صنعاء. هؤلاء كلهم أصلاء في الخريطة، ويتحمّلون لعبة الأمم في الصعود والنزول، والقوة والضعف. وحدهم الطارئون المحتلون، عند أول امتحان عسير، سيكونون في ورطة. إسرائيل الضعيفة تعني نقطة نهاية المشروع الصهيوني. فرقٌ جوهري وصميمٌ.
ومادام الشعب الذي يقاوم الإبادة يتشبث بأرضه، بعد 77 عاما عن النكبة، جيلا بعد جيلٍ، فإن إسرائيل تواجه باستمرار خطراً وجودياً. كل ذلك المدّ العاتي من الانتقاد لدولة الاحتلال، خلال الأيام الأخيرة، يظهر حجم التحوّل. لم تعد “القدّيسة إسرائيل” في الغرب كما كانت. ولا نزايد على سياسيين إسرائيليين وكتّاب ومفكرين عندما يقولون إنّ دولتهم صارت منبوذة.
إسرائيل بِنْتُ “حكاية” الهولوكوست. وإذا أشاح العالم بوجهه عن التاريخ البعيد، وهو ينظر اليوم في التاريخ الحي لـ”هولوكوست غزة”، حيث لا يزال اللحم المفروم بآلة الفتك الإسرائيلية طريّا، ولا يزال الدم المسفوك ساخنا، ولا تزال علامات المجاعة تظهر على أجساد أطفال القطاع، وفوق رؤوسهم كل ذلك الغبار جراء القصف، فما الذي تبقّى لإسرائيل لتحكيه، غير أن تواجه حقيقتها: دولة تأسست على خطاب مظلومية الشعب اليهودي، تحوّلت إلى وحش. لهذا 7 أكتوبر ليس كما قبله.
قصارى القول
وجدتني، بعد كل هذا لم آتِ على ذكر المغرب. للأسف لا أجد شيئاً كثيرا يُعتدّ به وسط هذه الحِسبة الكبيرة.
آخر فصول هذا الانكفاء الغياب عن تسجيل حتى موقف ( علني) من استهداف القوات الإسرائيلية لسفير المغرب في فلسطين عبد الرحيم مزيان، بإطلاق النار على وفد دبلوماسي دولي يزور جنين في الضفة الغربية. إسرائيل كانت تعلم بزيارة الوفد الدبلوماسي، ومن يضمّ، وبمسار الموكب، ومع ذلك عرّضت ممثلي دولٍ للخطر الجسيم. المغرب، إلى حدّ كتابة هذه السطور، لم يعبّر عن موقف كما فعلت دولٌ أخرى.
في انتظار موقف يأتي أو لن يأتي، يكون مهما إدراك العالم أن إسرائيل لا تزال على نهجها الأول منذ عصابات “الهاجاناه” و”الإرغون” و”شتيرن” و”ليحي”، وأنها جيشٌ عِصابي احتلالي أسّس “دولة”. الجيش الذي يطلق النار على سفراء دول مشمولين بالحماية الدولية، لن يوفّر القتل ضد نساء وأطفال فلسطين العزّل. والأهم هو إمعان النظر في هذا الانغماس الإسرائيلي في العنف والجنون وعدم القدرة على النزول من شجرة التطرف. وتربح فلسطين كلما تحوّلت إسرائيل إلى مشكلة دولية. ويوم 7 أكتوبر 2023 كانت البداية.