غزة.. حتى لا ننسى
فجر آخر يخرج من قاعة مجلس الأمن بقرار جديد، هذه المرة يزكّي خطة أميركية معدّلة تحمل اسم صاحبها (ترامب) وتَعِدُ بوقف لإطلاق النار وقوة دولية و”مجلس سلام” بولاية انتقالية.
لغة مشبعة بوعود الاستقرار وإعادة الإعمار، وعبارات مُحكمة الصياغة حول إدخال المساعدات، وإفراج متبادل عن الرهائن، وممرات إنسانية. كل ذلك لا يغيّر الحقيقة البسيطة: الحرب على غزة لم تنتهِ.
يواصل الرصاص مهمته الصامتة عند أبواب المدارس، والقذائف تعود إلى أحياء أُعلِن هدوؤها، والتهجير يتدحرج على شكل قوائم سفر “طوعية” تنظّم بسرية، وسفن مساعدات لا تبلغ شاطئا إلا بشق الأنفس.
القرار الأممي يوقف المشهد على الورق، لكن الأرض تتكلم لغة أخرى.
في نص القرار هندسة مؤسسية لمرحلة انتقالية، وقوة دولية “لتأمين المنطقة”، وعفو مشروط وتسليم للأسلحة، ولجنة تقنية تدير شؤون الناس تحت إشراف هيئة يرأسها سياسي أميركي.
سوابق مجلس الأمن تُظهر كيف تُبنى الإدارات الانتقالية عندما تكون الأمم المتحدة هي العنوان والنزاع محكوما بمرجعيات واضحة؛ أما هنا فنحن أمام ترتيب يخلط بين تفويض أممي وقيادة سياسية خارجية ويترك أسئلة ثقيلة بلا أجوبة: من يضع قواعد الاشتباك؟ من يضمن عدم تحوّل “المحيط الأمني” إلى إقامة دائمة؟ وكيف لا يتحوّل العفو إلى محو لحقوق الضحايا؟ وكيف لا تُصبح الحكامة الاقتصادية مظلة لتفكيك المجتمع بدلَ ترميمه؟
بين القرار وما يجري على الأرض هاوية من الوقائع. قطاع يَعدّ أنفاسه على فتات الكهرباء والماء والطحين، ومتحف مملوكي يُدعى “قصر الباشا” يسقط جزء من ذاكرة غزة معه وتختفي آلاف القطع الأثرية في زحمة الاجتياحات.
هذا ليس هامشا. فالذاكرةُ تُقصف هي الأخرى، والحجرُ شاهد على البشر، ومن يسرقُ الماضي يُهيئ لسرقة المستقبل.
وفي ممرات جانبية، تنمو شبكات “هجرة طوعية” تُديرها شركات غامضة، ورحلات مستأجرة تُخرج العائلات على عجل نحو بلدان بعيدة. أيُّ وقف لإطلاق النار هذا الذي يواصل تفريغَ المكان من أهله ويَعدُ بإعادة الإعمار بعد إفراغ الوجدان؟
تَعِدُ الخطة بالعمل و”الإغراق بالمساعدات”. بينما التجربة تعلمنا أن المساعدات، حين لا تُرفق بفك حقيقي للحصار وممرات مضمونة وتدقيق مستقل في التوزيع، تتحول إلى إدارةِ ندرة لا إلى صناعةِ كفاية.
لقد تعلّمنا أيضا أن إعادة الإعمار بلا ضمانات بعدم العودة إلى القصف، مجردُ دائرة مغلقة. إسمنت جديد فوق ركام قديم، ثم ركام جديد فوق الإسمنت. تعلّمنا أيضا أن أي مسار سياسي لا يَصمد إن لم يُجب بداهة عن الشرعية والتمثيل والمرجعيات النهائية وحدود 1967 ورفض أي تغيير ديمغرافي أو اقتطاع للأرض. دون ذلك، تُصبح “المرحلة الانتقالية” اسما آخر لإدارةِ أزمة مستدامة.
نكتبُ اليوم لا لننافس بيانات العواصم، بل كي لا ننسى. لا ننسى أن وقفَ النار ليس سلاما، وأن الصمتَ الذي يزرعه الخوف في أزقةِ الشجاعية والتفاح ليس “استقرارا”.
لا ننسى أن أطفال غزة تعلّموا العدَّ على ضوءِ الشموع لأن العالم عجز، أو تواطأ، أو رتّب أولوياته على مقاس القوة.
لا ننسى أن المقاومة، رغم كلفتها الهائلة، أعادت للقضية الفلسطينية مركزيتها في الضمير العالمي، وأن هذا المكسب الأخلاقي لا ينبغي أن يُستنزف في أسواق السياسة حيث تُباع الحقوق بالتقسيط وتُشترى المواقف بالمنح.
حتى لا ننسى، نذكّر بالبديهيات التي يريدون لنا أن نعتاد غيابها: لا إعمار بلا عدالة ومحاسبة؛ لا إدارة انتقالية بلا سيادة فلسطينية تمثل الناس ولا تُدار عنهم؛ ولا “أمن” يستقيم وهو قائم على تجريد المجتمع من إرادته. ولا مساعدة إنسانية تُختزل في الشاحنات بينما المعابر مقفلة والسيادة مُعلَّقة.
حتى لا ننسى، نقول إن غزة ليست ملفا تقنيا ولا “حالة إنسانية” تُدار بالمنصات واللوائح، بل مجتمع حيّ يريد أن يعيش بكرامة على أرضه، وأن يدفن موتاه بأسمائهم، وأن يَحفظ ذاكرته من النهب.
القرارُ الأممي لحظة سياسية لا شك. لكنه ليس خاتمةَ كتاب. إن أردنا له أن يكون أول صفحة في فصل مختلف، فالمطلوب واضح: فكُّ الحصار جذريا، وإقامة ممرات إنسانية تحت رقابة أممية فعلية لا شكلية، وضمانات قانونية ضد التهجير، وحمايةُ التراث كجزء من حمايةِ البشر.
مسار سياسي بمرجعيات صريحة لا تؤجّل الحق إلى أجل غير مسمى، ووحدة فلسطينية تُعيد تمثيل الناس وتمنح القرار وزنا.
وبين كل هذه العناوين، واجب أخلاقي واحد: أن نرفع الصوت كلما أُريد لهذه الحرب أن تنتهي على الورق وتستمر في العتمة.
حتى لا ننسى أن الدم الذي جرى ليس خبرا عابرا، وأن الركام ليس مجرد “مشهد”، وأن أهلها ليسوا أرقاما في بيانات المجلس.
حتى لا ننسى أن السلام لا يولد من غرفة عمليات بعيدة، بل من اعتراف بسيط بحق الناس في الحياة والحرية والعودة والذاكرة.
وحتى لا ننسى أن كل قرار لا يحمي الإنسان سيبقى قرارا ناقصا، ولو حمل توقيعات العالم.