story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

عودة كونفوشيوس

ص ص

حملت احتفالات الصين وروسيا بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان رسائل تبدو متناقضة، على الأقل في ظاهرها، وإن كانت القراءة المتأنية في جوهرها تشي بانسجام وذكاء يستحقان الإعجاب.

إن أهم وأخطر ما حدث في تزامن مؤتمر منظمة شنغهاي للتعاون، والاحتفالات المذكورة بنهاية الحرب العالمية الثانية، ومر أمام الجميع مرور الكرام، هو ما ورد على لسان الرئيس الصيني شي جين بينغ حين كلامه عن مبادرة “الحوكمة العالمية”، وأهمية هذه المبادرة في تحليلي أنها تشكل البذرة الأساسية التي ستقبر منظمة الأمم المتحدة في شكلها الحالي .

كلنا نتذكر خطاب الرئيس الأميركي وودرو ويلسون خلال مؤتمر فرساي سنة 1919، والذي جاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، والمعروف بمقترح “النقط الأربعة عشر” للرئيس ويلسون، والذي كان في جوهره ومنطوقه وخصوصا في النقاط الخمسة الأولى من بين نقطه الأربعة عشر، يرمي من بين أهدافه لوضع أسس ما سيعرف ب”عصبة الأمم” ، التي تم حلها سنة 1946 بعدما استبدلت في 1945 بمنظمة الأمم المتحدة .

وحتى لا ندخل كثيرا في تفاصيل خطاب ويلسون دعونا نركز في النقاط المذكورة والتي تتلخص في:

الدعوة إلى زمن جديد من الشفافية السياسية وتفادي الاتفاقات السرية، وحرية الملاحة في جميع بحار ومحيطات العالم للجميع، وتشجيع التجارة عبر إلغاء الحواجز الاقتصادية والتجارية بين الدول، والحد من التسلح، وحق تقرير المصير بالنسبة للدول الواقعة تحت الاستعمار، والمساواة بين الأمم في الحقوق والسيادة بغض النظر عن حجمها، والديمقراطية، بالإضافة إلى النقاط الأخرى المتعلقة بحدود مجموعة من الدول المتضررة من الحرب.

أما النقطة الرابعة عشرة فهي التي كانت تتعلق بتأسيس عصبة الأمم في أفق التعاون والتنسيق الدبلوماسي لحل النزاعات، والأمن الجماعي والحد من التسلح، واعتبرت نقاط ويلسون الأربعة عشرة تلك، مقاربة تصالحية لم ترُق نهائياً للأطراف الأوروبية التي فضلت مقاربة عقابية تجاه ألمانيا، ففرضت عليها شروطاً وتعويضات كبيرة لا قبل لألمانيا بها، كما رفضت بريطانيا المقترح المتعلق بحرية الملاحة لحماية أسطولها، وتم رفض المقترح المتعلق بحق تقرير المصير للشعوب المستعمرة حيث بقيت مجموعة من الدول تحت الاحتلال الغربي ، كما لم يتم تطبيق الحد من التسلح إلا على ألمانيا…

أما فيما يتعلق بالمقترح الأساس الذي تقدم به ويلسون والمتعلق بعصبة الأمم فقد تم تحقيقه، لكن من طرائف السياسة والتاريخ أن الولايات المتحدة نفسها لم تتمكن من الانضمام إليه بسبب اعتراض الكونغرس.

ماذا تعني إذا مبادرة “الحوكمة العالمية” التي اقترحها تشي جين بينغ على ضوء ما سبق؟ إنها بكل بساطة إحياء ذكي لمبادرة ويلسون بعد قرن على نسختها الأولى، مع بعض التعديلات والملاءمات الخاصة بالضرفية التاريخية الحالية .
لنلقي نظرة على أهم ما جاء فيها:

تدعو المبادرة للالتزام بالمساواة في السيادة، والاحتكام للقانون الدولي، والممارسة الفعلية لمبدأ التعددية، والتركيز على حق الشعوب. وبتحليل بسيط لهذه المبادئ ندرك أنها تعيد رسم الطريق الذي أدى إلى تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وقبلها عصبة الأمم، وكيف كان ذلك أداة لبسط الوصاية الأمريكية على النظام العالمي الجديد آنذاك القديم اليوم .

وتأتي مبادرة الرئيس الصيني كتتويج لثلاث مبادرات تأسيسية سابقة لها، مبادرة التنمية العالمية التي أطلقها شي جين بينغ في سبتمبر من سنة 2021، ومبادرة الأمن العالمي في أبريل 2022، وأخيرا مبادرة الحضارة العالمية التي أطلقها في مارس من سنة 2023، وتعتبر مبادرة الحوكمة العالمية الجديدة إدماجا للمبادرات الثلاث السابقة .

لقد كان مؤتمر “منظمة شنغهاي للتعاون” تجربة مصغرة لمدى إمكانية تأسيس منظمة أممية جديدة، تعيد إحياء المثل العليا التي ميزت الفترات الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الأولى .

تلك المثل التي، وعلى الرغم من معارضتها من طرف الأوروبيين يومها، هي التي شكلت النواة الرئيسية لريادة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى لا نقول أنها ورطتها في ذلك الدور، لما يناهز قرنا من الزمن.

كانت الولايات المتحدة، حسب تعبير كيسنجر، تعيش حتى بداية القرن العشرين حالة من العزلة الدبلوماسية قبل الحرب، وكانت تعتبر أن وجود دول أوروبا يعتمد على اختلاق واستمرار الحروب والنزاعات سواء فيما بينها أو بينها وبين دول أخرى في قارات ومناطق جغرافية معينة، بينما جاء ويلسون لباريس وهو يحمل المثل والمنطق الأمريكي في العلاقات الدولية.

لكن الحرب العالمية الأولى وما تبعها من مفاوضات، اضطرا أو لنقل استدرجا الولايات المتحدة لتقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بمنطلقاتها وتقاليدها السياسية في العلاقات الدولية، وورطها في مسار لم ينته إلى يومنا هذا، مبني على الصراعات والحروب، وجرها إلى فتح ما يتجاوز ثمانمائة قاعدة عسكرية وميزانية عسكرية تتجاوز ألف مليار دولار سنويا …

وبناء عليه، أصبح مقعد الدولة العاقلة الداعمة للسلام والأمن الدوليين شاغرا منذ ذلك الوقت، وهو ما جعل صعود الصين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، شرطا مؤسسا لدور جديد للدولة والأمة الصينية لاحتلال ذلك المقعد وفق نفس الحكمة التي كانت يوما تميز الولايات المتحدة الأمريكية خارجيا، وكل ذلك مع لمسة كونفوشيوسية واضحة .

إن القادم من الشهور والسنوات سيشهد اضمحلالا متزايدا للدور الأمريكي على علاته، والذي صار عقيما بين تكلفته العالية ومردوده الذي يضعف يوميا ، وسيبرز من الناحية الأخرى الحاجة الماسة لأمة وقيادة عالمية تتميز بالحكمة والشمول في سياق الكم الهائل من الصراعات ، والصين تعد نفسها بالفعل للعب هذا الدور .

وما يعنيه هذا الأمر هو أننا بتنا على أبواب تغيير جذري في بنية النظام العالمي، وأنّ منظمة الأمم المتحدة صارت هي المرحلة المقبلة في بسط نفوذ الصين وحلفائها على وظيفة التحكيم والوساطة في النزاعات الإقليمية والعالمية، وأن الزمن الذي سنرى فيه مقر الأمم المتحدة ينتقل بشكل من الأشكال من الغرب إلى الشرق ومن نيويورك إلى موسكو أو بكين لم يعد بعيدا بمقاييس التاريخ العالمي.

طبعا هذا ليس عملا خيريا من طرف بكين وموسكو، ونذكر روسيا هنا إلى جانب الصين، لأنه من نافلة القول أن نشير أن شي جين بينغ لم يكن ليطرح هذه المبادرة دون التشاور المسبق مع بوتين، ولكنه خيار من شأنه أن يضمن للصين وحلفائها أطول فترة ريادة عالمية ممكنة، وهي ريادة أرادت بكين أن تظهر للعالم أنها ستكون مدعومة ومحمية بالقوة، دون الرغبة ولا الحاجة لاستعمالها، كما بدا ذلك واضحا من خلال الاستعراض العسكري الصيني في بكين والذي تزامن مع خطاب يدعو للعدل والسلام والاستقرار العالمي.

بقي القول إن التاريخ العالمي ستتم إعادة كتابته من جديد وأن.. مجتمع الميم ستسبقه الميم.