story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
دولي |

عودة المتوسط إلى قلب الصراع العالمي: كيف تحول البحر القديم إلى مركز التوترات الجيوسياسية الجديدة؟

ص ص

ظل البحر الأبيض المتوسط عبر التاريخ فضاء مكثفا بالرموز والتاريخ والسياسة، مسرحا تتقاطع فوق مياهه ذاكرة الحضارات القديمة ومشاريع الإمبراطوريات الحديثة. فمن ضفافه انبثقت أعظم الثقافات، ومن موانئه انطلقت الأساطيل التي غيرت وجه العالم في كل مرحلة من مراحل التحول الجيوسياسي. وتكمن أهميته الجغرافية حسب “هالفورد ماكيندر”، في موقعه الوسيط بين القارات الثلاث: أوروبا وآسيا وإفريقيا، وانفتاحه على مجالات بحرية حيوية عبر أربعة مضايق استراتيجية هي البوسفور والدردنيل وجبل طارق وقناة السويس، ما جعله بحق قلب العالم الجغرافي. لم يكن هذا البحر يوما مجرد مساحة مائية، بل فضاء للتفاعل الحضاري والهيمنة المتبادلة، تعاقبت عليه قوى البحر من الفينيقيين والرومان إلى العثمانيين والأوروبيين، فصار مرآة لصراع دائم بين الانفتاح والسيطرة، وبين التبادل الثقافي والتنافس العسكري.

وقد تسربت هذه الرمزية العميقة إلى الوعي الثقافي العربي، كما تجلت بوضوح في رواية “شرق المتوسط” لـ”عبد الرحمن منيف”، حيث يتحول البحر إلى استعارة للانغلاق والاختناق، بحر مغلق تحيط به الجدران، كما لو كان سجنا يعكس واقع شعوب المنطقة الممزقة بين حلم الحرية وقيود الجغرافيا والسياسة. فالأدب هنا يكشف عن جوهر الجغرافيا السياسية نفسها: بحر الحلم والانكسار، ومختبر التناقض بين الإرادة الإنسانية والقيود البنيوية. وبعد أن خفت بريق المتوسط عقب الحرب العالمية الثانية لصالح الأطلسي، وعقب صعود المقاربة الأطلسية بقيادة واشنطن في مواجهة المركزية الأوراسية التي تبنتها موسكو، يعود اليوم هذا البحر إلى الواجهة محملا بالرموز القديمة نفسها، حيث تختلط فيه إرادة التحرر بواقع الصراع، وتتقاطع فيه الرموز الأدبية مع رهانات القوة والطاقة والسيادة.

ومع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عاد المتوسط إلى قلب الجغرافيا السياسية العالمية، ليس كفضاء جغرافي فحسب، بل كمسرح متشابك تتقاطع فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية في مجالات الطاقة والأمن والهجرة والسياسة. فقد مثلت ثورات الربيع العربي لحظة فارقة أعادت تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة، وفتحت الباب أمام صراعات جديدة حول السيطرة والتموضع. فالتغييرات التي عصفت بأنظمة الحكم لم تكن مجرد تحولات داخلية، بل زلازل جيوسياسية أعادت توزيع القوة بين ضفتي المتوسط وأيقظت التنافس القديم على مياهه الدافئة. في خضم ذلك، جاءت اكتشافات الغاز في شرقه لتضيف بعدا اقتصاديا واستراتيجيا غير مسبوق، إذ لم يعد البحر مجرد معبر للتجارة أو فضاء ثقافيا مشتركا، بل تحول إلى خزان للطاقة وورقة ضغط جيوسياسية تتقاطع حولها المشاريع الكبرى.

ومنذ تلك الاكتشافات، صار شرق المتوسط أشبه برقعة شطرنج تتداخل فوقها الحسابات البحرية والطاقية والعسكرية. فالقوى الإقليمية تسعى لترسيخ مواقعها، فيما تعمل القوى الكبرى على إعادة توزيع الأدوار بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. في هذا السياق، برز الدور الإسرائيلي كأحد أبرز المتغيرات، إذ عملت تل أبيب، بدعم مباشر من واشنطن، على تكريس نفسها قوة طاقية وأمنية فاعلة في شرق المتوسط، لا تكتفي بحماية مصالحها الأمنية التقليدية، بل تساهم في هندسة شبكة تحالفات جديدة تشمل اليونان وقبرص ومصر، هدفها ربط مشاريع الطاقة والبنية التحتية العابرة للبحر بمنظومة أمنية/اقتصادية واسعة. وهكذا، لم تعد العودة إلى المتوسط مجرد إعادة تموضع جيوسياسي، بل تأسيس لنظام إقليمي جديد يعيد رسم موازين القوة في العالم المتوسطي.

لقد كشف الصراع في سوريا عن التحول العميق الذي أعاد المتوسط إلى قلب الجغرافيا السياسية العالمية. فقد وجدت روسيا في الحرب السورية فرصة نادرة لإحياء حلمها التاريخي بالوصول إلى المياه الدافئة، انطلاقا من قناعتها بأن أي مشروع أوراسي لا يمكن أن يكتمل من دون تثبيت الوجود الروسي في البحار الجنوبية. ومن خلال قاعدتي طرطوس وحميميم، رسخت موسكو حضورها العسكري الدائم في شرق المتوسط، لتصبح فاعلا رئيسيا في معادلة الأمن الإقليمي وموازين القوى العالمية. وقد كان التدخل الروسي قد جاء في سوريا عام 2015 بعد ضم شبه جزيرة القرم وبسط السيطرة على البحر الأسود، في سياق إستراتيجية متكاملة تهدف إلى وصل البحرين الأسود والمتوسط ضمن فضاء نفوذ جيوسياسي واحد. وبهذا المعنى، لم يكن الوجود الروسي في سوريا مجرد دعم لحليف سياسي، بل خطوة مدروسة لإعادة بناء التوازنات البحرية في مواجهة الأطلسية الغربية. الصورة نفسها تكررت في ليبيا، حيث تحول النزاع الداخلي إلى ساحة تنافس مفتوح بين قوى دولية وإقليمية، تتصارع على موارد الطاقة وممرات الهجرة، في مشهد يعكس تداخل المصالح بين ضفتي المتوسط، وعودة منطق السيطرة عبر البحر كأداة لإعادة رسم النفوذ.

في المقابل، سعت إيران إلى توسيع نطاق حضورها الإقليمي عبر محور يمتد من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق، في محاولة للتموضع على ضفاف المتوسط، غير أن انهيار بنية النظام السوري وتراجع فاعلية ميليشياتها في لبنان وسوريا أجهض هذا الطموح. أما تركيا، فقد أعادت تعريف دورها في المنطقة من منطق “تصفير المشاكل” إلى منطق “بسط النفوذ”، فانتقلت من سياسة الحياد إلى الانخراط المباشر في هندسة مستقبل الإقليم. ومن خلال تفاهماتها التكتيكية مع حزب العمال الكردستاني وبعض الفصائل المحلية في شمال سوريا، استطاعت أن تضمن لنفسها مجالا حيويا متقدما داخل “سوريا الجديدة”، ما أتاح لها توسيع عمقها الإستراتيجي جنوبا. وبهذا التحول، أعادت أنقرة إنتاج موقعها في النظام المتوسطي ليس كدولة عازلة، بل كقوة صاعدة تمتلك أدوات التأثير في معادلات الأمن والطاقة، وتشارك في صياغة خرائط الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل على ضفاف المتوسط.

وفي ضوء هذه التحولات، يمكن النظر إلى صفقة القرن التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سنة 2017 بوصفها امتدادا لمنطق استراتيجي أوسع يتجاوز تصفية القضية الفلسطينية نحو إعادة هندسة شرق المتوسط ضمن رؤية أمريكية/إسرائيلية مشتركة. فالمشروع لم يكن مجرد مبادرة سياسية لتطبيع العلاقات، بل كان محاولة لدمج إسرائيل في منظومة المتوسط الجديدة كـ “محور اقتصادي وأمني” يرتبط بشبكات الطاقة وخطوط الملاحة البحرية، بما يجعلها شريكا مركزيا في ضبط موازين الإقليم من داخل الفضاء المتوسطي نفسه. وعندما اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة، أعادت إدارة ترامب إحياء هذا التصور من خلال طرح مقاربات “إنسانية واقتصادية” ظاهرها تخفيف المعاناة، وباطنها تثبيت البنية التحتية لمشاريع اقتصادية كبرى تربط غزة والمشرق بالمتوسط، بما يحول البحر إلى منصة مركزية لإعادة تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة.

وفي هذا السياق، تبرز تصريحات توم باراك، المستثمر الأمريكي من أصل لبناني والمقرب من ترامب، كنافذة كاشفة عن عمق التفكير الاستراتيجي داخل دوائر النفوذ الأمريكية. فحديثه المتكرر عن أن إعادة تشكيل الشرق الأوسط يجب أن تقوم على معادلة الطاقة والأمن، وأن المتوسط هو المفتاح لأي هندسة جديدة للمنطقة، لا يعكس مجرد وجهة نظر اقتصادية، بل يترجم رؤية واشنطن التي تعتبر السيطرة على المتوسط شرطا لازما لإعادة إنتاج نفوذها العالمي. فالمسألة تتجاوز حدود النفط أو الغاز إلى الرغبة في ضبط الممر البحري الذي يربط آسيا وإفريقيا وأوروبا، وجعل منه منصة لتثبيت الهيمنة الأطلسية في وجه القوى الصاعدة. لكن الولايات المتحدة لم تعد وحدها في هذا المضمار؛ إذ تمضي الصين بخطى واثقة عبر مبادرة الحزام والطريق، مستثمرة في الموانئ المتوسطية الكبرى مثل بيريوس في اليونان، الذي تحول من ميناء راكد إلى مركز تجاري مزدهر بفضل رؤوس الأموال الصينية. فيما تعد التجارب التنموية في قناة السويس، والمغرب، والجزائر، وإيطاليا امتدادا لهذا التوجه الذي يجعل من المتوسط عقدة مركزية في المشروع الصيني الرامي إلى إعادة رسم خريطة التجارة العالمية، رغم الضغوط الأمريكية التي دفعت إيطاليا إلى الانسحاب من المبادرة.

في المقابل، تواصل روسيا تعزيز حضورها في المتوسط عبر سوريا وليبيا وشبكة تحالفاتها في جنوب البحر، ما يجعل من المتوسط اليوم مسرحا لصراع الرؤى الكبرى: أطلسية تقودها واشنطن، وأوراسية تراهن عليها موسكو، وصينية تراكم حضورها بهدوء عبر الاقتصاد والموانئ. أما أوروبا، التي يفترض أن تكون المعني الأول بأمن المتوسط، فتجد نفسها في موقع ملتبس بين تبعيتها الدفاعية للولايات المتحدة واعتمادها المتزايد على موارده الطاقية. وقد كشفت أزمة الهجرة عن هشاشتها الاستراتيجية، بعدما تحول البحر إلى مقبرة مفتوحة وورقة ضغط في يد دول الجنوب. وهكذا، يغدو المتوسط اليوم فضاء متشابكا تتقاطع فيه المشاريع الكبرى: من صفقة القرن وخطط إعادة إعمار غزة، إلى الممر الهندي/الإماراتي نحو أوروبا، مرورا بالحزام والطريق وأنابيب الغاز المتصارعة، في مشهد يؤكد أن هذا البحر عاد ليكون قلب النظام الدولي ومختبر توازناته الجديدة.

وهكذا، يبدو البحر الأبيض المتوسط اليوم أشبه بمرآة تعكس اضطراب النظام الدولي وتبدل موازين القوى بين الشرق والغرب. وفي خضم هذا التشابك، تتبدى مفارقة عميقة: فالمتوسط الذي ولدت على ضفافه فكرة العالم المتصل، يتحول شيئا فشيئا إلى فضاء مقسوم بين الجدران البحرية والحدود السياسية والمصالح المتصارعة. ويبقى السؤال الأعمق: إلى أين يتجه المتوسط؟ هل سيظل رهينة تنافس القوى الكبرى، أم أنه قادر على استعادة رسالته القديمة كجسر بين الحضارات ومجال للتكامل والتنمية المشتركة؟ وهل يمكن لدوله، شمالا وجنوبا، أن تبلور رؤية جماعية تجعل من البحر فضاء للأمن المشترك بدل أن يكون ساحة للمواجهة؟ أم أن التحولات الجيوسياسية الراهنة ستدفعه أكثر نحو التمزق بين المشاريع المتعارضة؟ إنها أسئلة مفتوحة على مستقبل غامض، لكنه حاسم في تحديد ملامح النظام الدولي القادم، لأن من يملك المتوسط، كما قال “ماكيندر”، يمسك بقلب العالم.