story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

عن بذاءةٍ سياسية

ص ص

البذاءة صارت أسلوباً في السياسة. العالم الذي “يقوده” رئيس اسمه دونالد ترامب، يصفُ النائبة في الكونغرس الأمريكي إلهان عمر، قبل أيام، بـ”القُمامة”، بسبب أصولها الصومالية، طبيعيٌ أن تتفشى فيه عدوى قلة الذوق، وحتى قلّة الأدب في التخاطب السياسي.

أمّا حدّةٌ من هنا ومن هناك فتكون مرّاتٍ مِلْحَ السياسة وضرورةً لإظهار التنافس السياسي بحسب مقتضى المواقع: موالاة ومعارضة. لكنّ قلة الذَّوْق التي تنقل “لغة الزنقة” إلى داخل المؤسسات الدستورية مؤذية، وتُظهر مستوى الهبوط الذي يخترق مجالات يُفترض أن تشكّل بيتَ الأمة، وخيمة إدارة مفاوضتها المجتمعية.

وفي السياسة، الإساءات “دَوَّارة”. يومٌ منك ويوم عليك. والأسوأ أن يتحوّل السياسيون سريعاً إلى “مصالحات” تقفز بنفعيّة فجّة عن التجاوزات، بما يُمكِّن، في أذهان وأفهام الناس، لهذا الهبوط الذي لن يتوّقف إلا بشجاعة أن يتحمّل من لا يستطع التحكّم في لسانه بالانسحاب.

مؤسسة البرلمان مثلا يُفترض أن تؤدي وظيفة بيداغوجية لعموم المواطنين في الاختلاف، بإظهار القدرة على إدارة الحوار السياسي دون تجريح، وبترسيخ لغة تسمو على الشخصنة إلى الاهتمام الجدّي بقضايا المواطِن والوطن.

وإذا انمحت المسافة بين قبّة البرلمان والشارع فقطعاً نكون بإزاء وضعية خطرة، لجهة فقدان السيطرة على النقاش السوّي والديمقراطي، المحصّن بمستلزمات الأخلاق السياسية، وبالقانون.

“العدوان اللفظي” الذي تعرّض له النائب عبد الصمد حيكر، عن مجموعة العدالة والتنمية في مجلس النواب، من قبل وزير العدل عبد اللطيف وهبي، لا يجب أن يتكرّر، خاصة وأنّ لا شيءَ ممّا جرى كان يستدعيه، لولا “خفّة” غذّاها رئيس الجلسة أفقدت الجميع أعصابه وتسبّبت في التوتير بدل التهدئة.

ومع ذلك، يبقى وهبي مجرد “تلميذ” في مدرسة “البذاءة السياسية”.

لسان بنكيران، كبير البيجيديين، لاذعٌ، وسبّاب وأيضا. واعتذاراته كثيرة بعد أن تكون “وقعت الفأس في الرأس”.

زعيم العدالة والتنمية لم يترك حيوانات إلّا وجرى على لسانه في توصيف “أعدائه”. وفي هذه، خصوم بنكيران على حقّ. كان رئيس الحكومة الأسبق جزءاً من مشهدية بالغت في التهجّمات الشخصية عقب سنة 2011.

هذا العام ( 2025)، أطلق أوصاف “الحمير” و”الكلاب” و”الحشرات” و”الميكروبات” وغيرها في التهجّم على صحافيين وغيرهم، بل اعتبر أن “حتى الحمير أحسن منهم”.

بالنسبة لبنكيران، أحد “روّاد” المدرسة، التهجّمات تكتيكٌ سياسي، ومُجَرَّب مع منافسين سابقين. من الاتهامات بالاتجار في المخدرات، إلى الفساد والبلطجة، وحتى الانتماء إلى “داعش” الإرهابي. تبادلُ الاتهامات الثقيلة ( وليس مجرد إساءات أو فلتات لسان) كان في مستوى آخر، جارحاً وخارجا عن السيطرة، وحتى “العقل”.

كانت خصومات بنكيران و”معيوره”، وتهجّم الآخرين عليه، خبزاً يومياً للصحافيين. سنواتٌ لا تُنسى من حميد شباط وإلياس العماري وبنكيران، قبل أن ينصرف الأوّلان بعدما انقضت الحاجة إليهما، ويبقى بنكيران على سِبابه وحماوَته التي لا تنال منها السنين، والتي “لا تلمع” إلا بوجود خصم.

في سنة كهذه، من الطبيعي أن ترتفع حرارة رؤوس السياسيين بشواغل الانتخابات. يكون أمراً متوقعاً أن تشتد المناقشة بين الحكومة والمعارضة. عبد الله بوانو وباقي فريقه يؤدّون في البرلمان واجبهم الرقابي، ويُفترض أن تتحمّل الحكومة المسؤولية في التوضيح والرد والبيان، وأيضاً في ترتيب الأثر السياسي على الأخطاء التي لا تقبل التجاوز، من مثل شبهات تضارب المصالح.

بالنسبة للدول، “تسخين الطرح” في البرلمان أفضل من غليان الشارع. قبل أشهر هزّت احتجاجات جيل زد الشارع. ومن بين التعرُّضات التي طُرحت أنّ المؤسسات، وبينها البرلمان، لا تقوم بواجباتها في تمثيل المواطنين حقيقةً، ولا تنطق باسم الشعب، ولا تتدخّل لوقف استغلال المنصب الحكومي والوجاهة السياسية والعلاقات لمراكمة المنافع الخاصة. وأن يتحرّك البرلمان ويؤدّي وظائفه فهذا هو عينُ المطلوب، ولا يستحقّ عليه النائب سبّ والديه.

جرى حديثٌ خلال دينامية جيل زد، وحتى قبلها، عن مخاطر تهديم الوسائط المجتمعية، من أحزاب ونقابات وهيئات مجتمع مدني، وشلّ مؤسسات الرقابة. وأنْ ينتصب طرفٌ للقيام بواجباته فهذا أمرٌ يستحق الإشادة، لا العدوان بتعابير تخلو من الأخلاق.

الفكرة أنْ يتم تحصين المؤسسات في “زمن التفاهة”. الحديث هنا أساساً عن صوْن ما تبقى من مِظَلّات وسقوفٍ عن أن تحترق بنار السِّباب والنزول باللغة إلى حدّ السوقية.

البذاءة تُعْدي. بذاءةٌ مرصودة في الشارع وفي شبكات التواصل الاجتماعي، وفي بعض الصحافة، وداخل هيئات سياسية، ولا يجب أن تتفشى في مؤسسات دستورية.

خطورة “نظام التفاهة” والبذاءة في قدرته على التسلّل والتفشّي. جائحةٌ لا ينبغي أن تضرب المؤسسات وتصير جزءاً من تعريفها، في سياقات دولية تتّسم بتراجع القيم وتبدّد المرجعيات، بما يُعلي من شأن النفعية التي تجعل “الغاية تُبرّر الوسيلة”، ويرفع من منطق الربح الذي لا يتلفت إلى الأضرار الناشئة عن مشاهدة مواطنين مثلا لوزير يُعَيِّرُ برلمانياً بلغة الشوارع.

لا يجب يسود التسليع والتسييل للخطاب والسلوك، والعلاقات، داخل المؤسسات.

الوزراء ضيوفٌ على البرلمان، وهذه الوضعية تقتضي احترام المسؤول الحكومي لمُضيفه، مثلما يَلْزَم البرلمان احترام السلطة التنفيذية خلال مساءلتها وممارسة الدور الرقابي. هذا هو الترتيب المعقول في الديمقراطيات، ومنطقُ الأشياء.

دعوة الملك محمد السادس إلى اعتماد مدونة للسلوك والأخلاق داخل البرلمان، وتشديده على “الدور الحاسم الذي يجب أن يضطلع به البرلمان في نشر قيم الديمقراطية وترسيخ دولة القانون، وتكريس ثقافة المشاركة والحوار، وتعزيز الثقة في المؤسسات المنتخبة” (رسالة ملكية موجهة إلى المشاركين في الندوة الوطنية المنعقدة تخليدا للذكرى الستين لقيام أول برلمان منتخب في المملكة/ يناير 2024)، دعوةٌ لحماية هذه المؤسسة من الرداءة والهبوط الأخلاقي، وتشديدٌ على عدم تركِ الترفّع منوطاً بضمائر المسؤولين فقط، بل تقييده بمدونة سلوك وأخلاقيات مرجعية ومعيارية ترتّب جزاءات على المخالفين.

لسنا مجبرين، في برلمان هذا البلد وحكومته أن نُحاط بالصامتين الذين لا يكادون يقولون شيئاً، وبين الذين إذا تكلموا أشعلوا ناراً. ثمّة مساحة محاورة طبيعية يجب أن تُملأ، بعد رفع اليد عن الانتخابات لتكون نزيهة، تفضي إلى التمثيل الحقيقي للمجتمع داخل المؤسسات، دون حاجة إلى المال السياسي، أو دعم الأعيان والمقربين من السلطة، أو تسخير مقدّرات الدولة لصالح جهة على حساب باقي المتنافسين.

قصارى القول

دخل المغرب منذ سنوات دورة إشكال يرتبط بإنتاج نخب قادرة على الاشتباك السياسي بكفاءة. البرلمانات تتنفّس أوكسجين السياسة، الأقدرِ على عكسِ المجتمع في المؤسسات، إن جرت انتخابات ديمقراطية. والذين قدّروا أن المرحلة لا تحتاج منسوبَ سياسة أعلى يُغرقون المؤسسات بقلّة الكفاءة، التي تُنتج التفاهة والبذاءة بعد مرحلة الشعبوية، بما يفوّت على البلد نقاشاً طبيعياً.

استعادة السياسة في المغرب مطلبٌ حيويٌ، واستعادة السياسة (المتخلّقة) في المؤسسات، وأساسا التي تؤدي أدوار التمثيل الشعبي، والتي تمنح المجتمع نموذجاً لما يجب أن تكون عليه المحاورة المجتمعية، بالغُ الأهمية.