عندما يُرفع شعار “خاوة خاوة” فوق نكبة مغربية بلا اعتذار
يلاحظ المتتبع لما يجري في كأس أمم أفريقيا حاليا تضاربا بين حفاوة الاستقبال الرسمي والشعبي للمنتخب الجزائري ومشجعيه الذين قوبلوا بالتمر والحليب والورود وأنشودة جمهور فريق الرجاء “حنا خاوة ماشي عداوة”، والمضايقات التي تُمارسها السلطات الجزائرية كلّما حلّت فرق ومنتخبات مغربية ضيفة على أراضيها؛ مضايقات عَكَسها شعار “المروكي حيوان..اعطي لو البنان”، صدحت به جماهير جزائرية عند افتتاح كأس أفريقيا للاعبين المحليين من قبل سنتين. يعزو كثيرون هذه المفارقة إلى طيبة وكرم وسمو أخلاق المغاربة في حين أن سلوك الشّعبين ما هو إلا نتيجة سياستين متضاربتين، بين ذاكرة الضحية التي يعيش عليها النظام الجزائري منذ الاستقلال، وذاكرة الصّمت والنسيان التي ينتهجها المغرب منذ عقود.
أشعلت القوات الجزائرية شرارة حرب الرّمال بشنّها هجوما على القوات المغربية المتواجدة في منطقة حاسي بيضا في يوم 8 أكتوبر 1963، ثم أطلق الرئيس الجزائري أحمد بن بلا صرخة “حكرونا المغاربة…حكرونا” التي تحولت الى سردية “غدر المخزن” التي تُزيّف التاريخ وتشحن الشعب بكراهية المغرب من خلال المناهج الدراسية وخطب المساجد ووسائل الاعلام، بينما تبرئ النظام من جرائم ومظالم تتصدرها “المسيرة الكحلة” وحرب الوكالة التي يخوضها منذ نصف قرن بواسطة جبهة البوليساريو.
في المقابل، ينتهج النظام المغربي سياسة الصّمت و”اليد الممدودة ” التي تقوم حول ذاكرة النسيان، إذ تعمل السلطات على تغييب العديد من الاعتداءات التي تعرّض لها المغاربة من المناهج التعليمية والخطاب الرسمي الذي يعكسه الإعلام الرسمي. فتاريخ المغرب مليء بمآسي جماعية مازال يجهل تفاصيلها أجيال من المغاربة، أبرزها جريمة “المسيرة الكحلة” كما أسماها صانعها، الرئيس الجزائري بوخروبة المعروف بالهواري بومدين، انتقاما من نجاح المسيرة الخضراء. طالت الجريمة 45 ألف عائلة مغربية، تقدر بـ 350 ألف مغربي كانوا يعيشون في بلد ظنّوه شقيقا فاقتلعهم وشرّدهم، بعد أن سطا النظام على أموالهم وجرّدهم من ممتلكاتهم واحتجز أطفالهم وأزواجهم وآباءهم.
تنظيم عملية الترحيل القسري للمغاربة التي انطلقت في 18 ديسمبر 1975، دام حوالي ثلاثة أسابيع وتطلب تخطيطا وتنسيقا وثيقا بين العديد من الوزارات والإدارات، من أركان الداخلية إلى وزارة النقل. شارك في الجريمة مئات وربما آلاف من العاملين في شرطة النظام وموظفين مدنيين سهروا على تحضير قائمة جلّ المغاربة المقيمين في الجزائر، وقائمة فرعية ضمّت أسماء من تزاوجوا منهم بمواطنين ومواطنات جزائريين وأنجبوا أطفالا حُكم عليهم باليُتم القسري.
شهادات الضحايا المغاربة المتاحة على الانترنت يتفطر لها القلب، تحكي قصّة جريمة مُحكمة التنظيم، نفَّذتها السلطات بتعاون جزء من المواطنين وصمت النّخب. يحكي الناجون كيف داهَمَ بيوتهم منذ أولى خيوط الفجر رجال أمن مسلحين، وكيف لاحقوهم في الشوارع، حتى أخرجوا المرضى من المستشفيات، والأطفال في المدارس. تحكي سيدة مغربية متزوجة بجزائري كيف اقتلعوا طفلها من صدرها وهي ترضعه، ويحكي آباء وأمهات كيف تركوا وراءهم فلذات أكبادهم يصرخون ألما، ويتحسّر آخرون على أنهم لم يودّعوا أبناءهم الذين كانوا في المدارس وسيكتشفون عند عودتهم أن آباءهم أو أمهاتهم قد هُجّروا إلى الأبد. يحكي تجّار مغاربة كيف أخرجتهم الشرطة من فللهم بحقيبة واحدة في أحسن الأحوال، تاركين وراءهم شركاتهم وممتلكاتهم وأراضيهم ومتاجرهم وسياراتهم وأموالا مودعة في البنوك، ومازال بعض الضحايا يحتفظ بحقائب ورزم الترحيل ومفاتيح بيوت تركوها عنوة، وفلل بيعت في المزاد العلني، وسَكَنَ بعضها جيرانهم.
لم تستثنِ عملية الترحيل المغاربة البواسل الذين حاربوا في صفوف جيش التحرير الجزائري وجُرحوا وسُجنوا من أجل تحرير “أشقائهم” من وطأة الاستعمار. لم تشفع لهم أوسمتهم وبطاقة “المجاهد” الشاهدة على شهامتهم. ولم تنجُ أمهات شهداء مغاربة وأراملهم وأبناء من ضحوا بحياتهم لتحرير بلدٍ لم يطلق من أجله بومدين رصاصة واحدة، هو ورفاقه في خلية وجدة التي احتضنت قياداتٍ ناكرة للجميل. رحّل الجزائريون مجاهدين جُرحوا في حرب المقاومة وأصيبوا بإعاقات، وأجبروا بعضهم على المشي بعكاكيزهم، تاركين وراءهم رِجلا أو يَدًا يتيمة دفنت في مقابر المقاومة.
بعد عمليات المداهمة والاحتجاز، اقتادت القوات الجزائرية المُرحَّلين من النساء والرجال والأطفال إلى المخافر حيث جعلوهم يحملون لوحة كتب عليها رقم ترحيلهم، ثم التقطوا لهم صورا، وحشروهم في المخافر ليلة أو ليلتين أو أكثر، قبل أن يكتمل عدد الأفواج، ليسيروا بهم نحو حافلات وقطارات مكتظة عن آخرها. يتذكر من استقل منهم الحافلات كيف لاحقهم بعض أبناء الشعب الجزائري، بين من رماهم باللّعنة والحجارة ومن اكتفى بالبصق عليهم، قبل أن يتم رميهم في العراء على الحدود مع المغرب.
وما إن توقفت جريمة الترحيل في أيام عيد الأضحى حتى بدأت محنة التشريد وصدمة الاجتثاث والفراق والاختفاء. سرعان ما سيكتشف عدد من المُرَحّلين أن السلطات الجزائرية قد احتجزت عددا من المغاربة، وسلّمتهم لمليشيا البوليساريو وجيش معمر القذافي، ليقبعوا في سجون تندوف والسجون الليبية، ذاقوا فيها أنواع العذاب والتعذيب، فمات منهم من مات وفي قلبه غصَّة الغدر، وعاش من عاش ممن فُكّ أسره بعد فوات الأوان، إثر سقوط نظام القذافي.
تجندّت السُّلطات المغربية لتحتوي الكارثة الإنسانية في صمت، فوفّرت ما يمكن توفيره من خيامٍ وأكل، وشراب، ولباس وغطاء ودواء، ثم أسرعت في توزيعهم على بعض المدن المغربية. تعاملت مع النكبة المغربية التي مازال يجهلها العالم على أنها مجرّد أزمة إنسانية شبيهة بمخلفات زلزال أو فيضان أو إحدى الكوارث البيئية، وغضّت الطرف عن حقوق ضحايا جريمة اعتداء على مدنيين، ذنبهم الوحيد أنهم مغاربة. في مواجهتها الغضب الشعبي، أصدرت وزارة الداخلية قرارا يحذر من الانتقام من المواطنين الجزائريين المقيمين في المغرب، ويتوعد كل من يخالف القرار بعقوبة السجن.
يُعرِّف القانون الدولي جريمة الترحيل القسري بكونها عملية “الإبعاد الدائم أو المؤقت للأشخاص و/ أو أسرهم و/ أو المجتمعات المحلية، من المنازل و/ أو الأراضي التي يشغلونها، ضد إرادتهم وبدون توفير أشكال مناسبة من الحماية القانونية أو غيرها من أشكال الحماية الأخرى، ومن دون إمكانية الوصول إلى الحماية”. يحظر هذه الجريمة القانون الدولي الإنساني والمواثيق والأعراف والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان؛ وتُدرَج ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وقد ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية في بعض السياقات. لذلك شملتها العديد من دساتير المحاكم الخاصة، كنظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، وروندا.
رغم مرور نصف قرن على أكبر مأساة شهدها المغاربة بعد حرب الريف وحرب إفني، لم يصدر عن الدولة المغربية أي إدانة رسمية لجريمة مؤكّدة. ظل الضحايا يتخبطون في مواجهة الصّدمة ومخلفات التشريد إلى أن قرر بعضهم كسر جدار الصمت، فأنشأوا في يوليو 2006 “جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا التهجير القسري من الجزائر”، باعتباره جريمة جسيمة لا تسقط بالتقادم. تخوض الجمعية معركة قانونية في المحافل الأممية تفوق قدراتها، وتطالب باعتذار رسمي من الدولة الجزائرية، وباستعادة الممتلكات، وتعويض مادي لجبر الضرر. منذ أزيد من عقدين والجمعية تناضل بمفردها كمن يحارب طواحين الهواء، في غياب دعم السلطات المغربية التي ترفض مقاضاة النظام الجزائري أمام آليات المساءلة الدولية. ومن غير الواضح إن كان استعطاف الجمعية العاهل المغربي السنة الماضية قد لقي استجابة لبعض مطالبها من أجل استصدار إدانات رسمية، وإشراك بعض المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية والهيئات النقابية في معركة إنصاف طال أمدها.
هكذا تخلت الدّولة عن واجب حماية حقوق مواطنين، ضحايا جريمة دولية ارتكبت في سياق نزاع إقليمي لا يمكن اختزالها في ملف جمعية مدنية مستقلة. في محاولة لفهم أسباب هذا الخذلان، قد يجادل البعض أن النظام المغربي يرفض الظهور بمظهر الضّحية حفاظا على كبرياء مملكة يُجسد شعارها أسدان أطلسيان يحميان التاج الملكي. يمكن بالفعل تأويل هذا الصّمت الرسمي على أنه رغبة في ترسيخ صورة الدولة الواثقة بذاتها، الرافضة لمنطق الضحية وسياسة الشكوى والمظلومية في علاقاتها الخارجية، لما يحمله ذلك من إيحاء بالهشاشة أو فقدان المبادرة في منطق القوة الذي يحكم العلاقات الدولية.
لكن هذا التبرير لا يُفسّر صمت المسؤولين المغاربة إزاء جرائم ارتكبتها دول أخرى بحق مواطنين مغاربة، ما يزال بعضهم يعاني تبعاتها في ظل تعتيم رسمي مستمر، وفي مقدمتها جرائم التحالف الإسباني-الفرنسي الذي شنّ حربين دوليتين ضد الشعب المغربي لم يسبق أن أدانتهما الرباط. استخدم التحالف الأسلحة الكيماوية المحظورة في حرب همجية ضد المقاومة المغربية في الريف في 1925 و1926، ثم قصف مقاومي جيش التحرير وإخوانهم الصحراويين الذين كادوا أن يحرروا الصحراء المغربية لولا تحالف باريس ومدريد وغياب دعم النظام المغربي لحرب إفني المنسية التي خاضتها المقاومة الشعبية في ما بين 1957 و1958.
كثيرة هي الأحداث التي تعرَّض خلالها المغاربة لاعتداءات من طرف كل من الجزائر وفرنسا واسبانيا ولم تحرّك السلطات تجاهها ساكنا، ما شجع النظام الجزائري الحالي على الاستمرار في اعتداءاته وقد أدرك أن سياسة الصّمت الدبلوماسي وخفض التصعيد واليد الممدودة قد أصبحت إحدى ثوابت السياسة الخارجية التي تنتهجها الرباط تجاه الدّولة الجارة. ويكفي التذكير بصمت السّلطات المغربية تجاه جريمة خفر السواحل الجزائري الذي قتل شابّين مغربيين رميا بالرصاص لدخولهما المياه الجزائرية عن طريق الخطأ بينما كانا يمارسان الرياضة المائية على متن “جيت سكي” بشاطئ السعيدية؛ جريمة ارتكبت منذ عامين تحت هتاف وتشجيعات جمهور من “الإخوة” الجزائريين. وقبل ذلك بعامين، صمتت السلطات أمام طرد الجيش الجزائري عددا من المغاربة من مزارعهم في منطقة العرجة الحدودية في ضواحي مدينة فجيج المغربية ليستولي على أراضي تؤكد مغربتيها شهادات ملكية توارثوها أبا عن جدّ، قبل أن تضيع العرجة بنخيلها وتمورها مثلما ضاعت الصحراء الشرقية من قبلها.
تبرز هذه الأحداث وجود شرخ بين النظام والمواطنين يعود بالأساس إلى عدم احترام المسؤولين للإنسان المغربي وكرامته وعدم اكتراثهم لمعاناته. وإلا كيف يمكن تفسير عدم إعلان الحداد على أرواح عشرات المواطنين الذين قضوا مؤخرا في حادثة انهيار البنايتين في مدينة فاس، ومن غرقوا في فيضان أسفي، ومفقودي فيضان واد فزو بإقليم تنغير؟ الخيط الناظم هو الإنسان المغربي، المُغيّب في سياسة ذاكرة النسيان والمُهمّش في مشاريع التنمية الحجرية.
استحضار هذه الأحداث ليس تحريضاً على العداء، بل تذكير بواجب الذاكرة الغائب عن سياسات الدولة التي تطعن كرامة مئات الآلاف من الضحايا وأحفادهم بإصرارها على دعوة الجزائر إلى الحوار وطيّ صفحة الماضي من دون طلب اعتذار رسمي عن جريمتها ضد إنسانية المغاربة. أما شعار “خاوة خاوة” فيفقد معناه حين يُرفع فوق نكبة كبرى لم تضمد جراحها بعد، وحين يُطلب من الضحية مصافحة جلادها باسم الأخوّة، ومن دون إنصاف. العلاقات بين الشعوب لا تُبنى على محو الذاكرة أو تطبيع الجرائم، بل على الاعتراف بالعدوان والاعتذار وجبر الضرر. فقط عندما يتم إنصاف ضحايا التهجير القسري الجماعي، وحين يلتزم الجزائريون بمناداتنا باسمنا، كمغاربة، بدلا من قذفنا قدحاً بـ”المرّوك”، يمكن عندها لشبابنا رفع شعارات الأخوة في إطار احترام متبادل ومتكافئ يضمن مصالحة حقيقية.