story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

صوتنا.. لساننا

ص ص

في مساء واحد، اجتمعت في قاعة أنيقة بالعاصمة الرباط، كلّ الكلمات التي تمنّينا أن تُقال عن هذا البلد، وكلّ الهواجس التي حاولنا، منذ أن ولد “صوت المغرب“، أن نمنحها حنجرة وورقة وفضاء آمنا للتفكير بصوت عال

لم يكن حفل ذكرى ميلاد منبر إعلامي، بقدر ما كان تمرينا جماعيا على استعادة معنى بسيط كدنا ننساه: الانحطاط ليس قدرا، والسياسة لم تمت، والصحافة لم تتحوّل كلها إلى منشار إلكتروني أو بوق مدفوع الأجر. ما زال الإنتاج النبيل ممكنا، فقط يحتاج إلى قليل من العناد وكثير من الشركاء المتواطئين في الحلم.

منذ اليوم الأول، عرفنا أن إطلاق منبر اسمه “صوت المغرب” ليس إعلان حيازة، بل إعلان مسؤولية. أن تقول “الصوت” في زمن الضجيج يعني أن تراهن على وضوح نبرة وسط صراخ جماعي، وأن تختار طريقا أطول وأشقّ: طريق المقال التحليلي بدل الجملة المبتورة، وطريق السؤال المقلق بدل الشعارات الجاهزة.

لهذا لم ننظّم حفلا لنمدح أنفسنا، بل لنختبر، أمام عيون من نحبّ رأيهم ونخشى حكمهم، هل ما نقوم به يستحق أن يُواصل أم لا.

في أعقاب الحفل، وصلتني رسالة تلخّص ما حاولنا قوله ببرنامج كامل: “المرزوقي العلماني، والعثماني الإسلامي، وأبو زيد اليسارية، وأوريد المخزني، والصحافة بصيغة المذكر والمؤنث… مغربنا الكبير يجمعنا، خصنا غير شوية د المعقول”.

كان هذا التعليق العفوي من ناشط فيسبوكي أهم مراجعة تلقيتها شخصيا. نعم، هذا ما أردناه بالضبط. أن نقول إن هذا البلد يتّسع لعلماني قادم من بلاد قرطاج، يكتب عن “الرحلة”، ولفقيه يُمعن في الأسئلة الوجودية، ولمثقفة يسارية ولابن “دار المخزن” الذي اختار أن يكون ناقدا من الخارج بعدما ضاق به الداخل، ولصحافة لا تخجل من صوتها، أكانت بصوت رجل أو امرأة.

مغرب واحد بوجوه كثيرة، حلم ممكن بشرط واحد: القليل من المعقول.

من هذه الروح انبثقت فكرة أن يكون منصف المرزوقي ضيف شرفنا الأول. لم يكن الأمر مجرّد استضافة رئيس سابق للجمهورية التونسية، بل كان اختيارا واعيا لرجل جمع بين الطب والحقوق والنضال والسياسة والكتابة. سياسيّ من “الشريحة المهددة بالانقراض” كما قال حسن أوريد. أي ذلك النوع النادر الذي يكتب ويفكّر، ويعتبر نفسه جزءا من الحقيقة لا مالكا لها.

أن يختار “صوت المغرب” كتاب “الرحلة.. مذكرات آدمي” ليحتفي عبره بالرجل، وأن يجلس إلى جواره حسن أوريد وسعد الدين العثماني وحسناء أبوزيد، لم يكن مجرد عزف على نغمة “التعددية”، بل رسالة في حد ذاتها: ما زال ممكنا أن نقرأ السياسة من بوابة الأدب، وأن نفهم السلطة من خلال سيرة إنسانية، وأن نُجلس، في قاعة واحدة, يساريّة وإسلاميّا و”مخزنيا” ورئيس دولة سابق، دون أن يحتاج أحدهم إلى خيانة نفسه كي ينسجم مع الآخرين.

“الرحلة” التي تحدّث عنها المرزوقي، والتي قرأها أوريد كرحلة في الذات ومن الذات، ليست بعيدة عن رحلتنا نحن. هو كتب ثلاثين سنة ليقول إن كل إنسان يعيش عالمه الخاص داخل عالم مشترك، وإننا لا نكتفي باستكشاف العالم، بل نخلقه كلّ بطريقته؛ ونحن جرّبنا، في سنتين فقط، أن نخلق عالما صغيرا داخل هذا الفضاء الإعلامي، عالما نريد أن يجد فيه كل قارئ شيئا من نفسه ومن قلقه ومن أمله.

حين يقول ضيفنا التونسي: “لا شيء أهم من صحافة حرة ومستقلة لبناء دولة ومجتمع سالمين”، نشعر أن عنوان مقالنا هذا، “صوتنا.. لساننا”، يجد معناه الكامل في كون الصحافة ليست زينة ديمقراطية، بل عضو حيوي في جسد الدولة، إذا أصابه العطب اختنق كلّ شيء.

كان ضروريا، بعد هذه الجرعة العالية من المعنى الإنساني، أن ننزل إلى ورشة الواقع الخشن؛ وإلى المهنة نفسها التي نحاول أن نمارسها دون أن نخونها. لذلك كان الموعد مع ندوة الوزراء السابقين للاتصال، حول أزمة الصحافة.

لم نرد أن نبقى أسرى لثنائية “صحافي غاضب” في مواجهة “دولة صمّاء”، بل اخترنا أن نجمع من جلس، في فترات مختلفة، في المقعد التدبيري الأقرب إلى هذا القطاع: محمد نبيل بنعبد الله، مصطفى الخلفي، الحسن عبيابة. فيما تعذّر على الوزير الحركي محمد الأعرج الحضور بسبب التزام حزبي لا يستطيع الغياب عنه.

رجال لا يمكن اتهامهم بالعدمية، ولا بجهل “توازنات الدولة” وإكراهاتها، وما زالوا، رغم اختلاف مرجعياتهم، منخرطين في الحقل السياسي وحاملين، بحكم سيرتهم، بصفة “رجال دولة”. حين يلتقون في منصة واحدة ليقولوا، كلٌّ بطريقته، “اللهم إن هذا منكر”، فإننا نكون قد نقلنا النقاش خطوة إلى الأمام.

حين يحذّر بنعبد الله من أن الديمقراطية تصبح في خطر “حين تنضاف مشاكل الإعلام إلى مشاكل السياسة”، ويقرّ بأن وضع الصحافة اليوم “لم يسبق له مثيل حتى في الساعات الحالكة”، فهو لا يكتب تدوينة في نوبة غضب، بل يقدّم شهادة من داخل غرفة المحركات.

وحين يقول عبيابة “لا ديمقراطية بدون إعلام قوي”، ويرى أن إصلاح الصحافة جزء من التحضير الوطني للمرحلة المقبلة، فهو لا يغازل الصحافيين، بل ينبّه إلى أن تنزيل الحكم الذاتي في الصحراء، أو أي تحوّل سياسي كبير بلا صحافة مهنية سيكون عملا ناقصا وخطيرا.

وحين يأسف الخلفي على ضياع استقلالية المجلس الوطني للصحافة، ويقول إن من يفقد الثقة في هيئة التنظيم سيلجأ مباشرة إلى القضاء أو يلوذ بالصمت، فإنه يصف، بهدوء رجل خبر الإدارة، كيف يمكن لقرار واحد أن يهدم تجربة تنظيم ذاتي بُنيت على مدى سنوات.

بهذا المعنى، كانت ندوة الوزراء رسالة إلى من يعتقد أن من ينتقد ما يجري من تجريف وتسفيه في الحقل الإعلامي مجرّد “حالم” أو “جاهل بما يجري في الكواليس”.

ها هم أقرب الناس إلى الجهاز التنفيذي المرتبط بالصحافة، ومن يُعتبرون جزءا من المنظومة السياسية، يلتقون في نقطة واحدة على الأقل: ما يحدث اليوم ليس قدرا، وليس طبيعيا، ولا يمكن السكوت عنه.

من داخل الدولة، ومن خارجها، هناك من يرفع الصوت بأن المهنة تُدفع دفعا نحو حافة الهاوية، وأن إنقاذها ليس ترفا نخبويا، بل شرطا لبقاء السياسة نفسها ممكنة.

لم يكن كلّ ما سبق ليعني الكثير لو لم يُقَس على مرآة تجربتنا الصغيرة.

منذ أن قررنا أن نُطلق “صوت المغرب”، كنّا نعرف أننا ندخل حقل ألغام. موارد شحيحة، وسوق إشهار يتحرك بمنطق الولاء لا الجودة، وضغوط مضمرة ومعلنة، وبيئة رقمية تغري بالانزلاق إلى السخرية المجانية أو تشويه الخصوم بدل بناء المعنى.

اخترنا، مع ذلك، أن نغامر بمسار مهني وعائلي، وأن نضع كل ما نعرفه عن الكتابة والتحليل في خدمة هذا المشروع.

عشنا لحظات شكّ طويلة، سألنا خلالها أنفسنا: هل يستحق الأمر هذا العناء؟ هل نضيف شيئا حقيقيا أم نكرّر ما يقال بأصوات أعلى؟

ثم تأتي رسائل قليلة، لكنها ثقيلة الوزن، لتجيب نيابة عنّا. رسالة ضيف كبير يقول: “لقاء الأمس كان باقة غنية من العروض، ومن التأمل، ومن التفكير في واقع ومستقبل رسالة الصحافة ومهنة المتاعب”.

هذا المقال هو محاولة لتثبيت معنى في زمن سريع المحو: أن تكون لنا صحافة تحترم عقل القارئ، وسياسة تقبل النقد، وجسور قائمة بين المثقف والسياسي والصحافي والمواطن.

لقد حاولنا أن نثبت، بالبرهان الحي، أن مغربا يجمع المرزوقي والعثماني وأبوزيد وأوريد والوزراء السابقين والصحافيات والصحافيين الشباب في مساء واحد، لم يفقد بعد شروط التعافي.

“صوتنا.. لساننا” ليست جملة شعرية على الغلاف، بل تعهّد مفتوح: أن نواصل لعب الدور الصغير الذي نعرفه، نكتب ونُعدّ وننظّم ونختلف، لنحمي ما تبقّى من مساحة مشتركة يمكن أن نسمّيها، دون مبالغة، فضاء عموميا.

ما دمنا، نحن وأنتم، نصرّ على أن نحلم بصوت مرتفع، فلن يستطيع أحد أن يصادر حق هذا البلد في الأمل.

إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابدّ له من صوت ولسان.