سيرة رجل لم يُساوم
لم يكن مصطفى براهمة اسما عابرا في اليسار المغربي، بل كان سيرة مكتوبة بالحبر والدم والانتظار، إلى أن ودّعنا قبل أيام.
رجل عاش كما يفكّر، ومات كما عاش: واقفا في صفّ الفكرة لا في صفّ الفائدة. من زنزانات الثمانينيات إلى بيانات النهج الديمقراطي في زمن اللامبالاة، ظلّ براهمة نموذجا للمناضل الذي رفض التحوّل إلى “فاعل سياسي” بالمعنى البارد للكلمة، مفضّلا أن يبقى شاهدا على زمن كان فيه الإيمان بالمبدأ كافيا ليُرسل صاحبه إلى السجن.
في موته كما في حياته، بدا وكأنه يذكّرنا بأن السياسة ليست مهنة بل موقف، وأنّ الوفاء للمسار أهمّ من الوصول إلى الهدف.
لم يمت مصطفى براهمة كما يموت الناس عادة. رحل وهو يترك خلفه سيرة تمشي على قدمين: قدم في زنزانة الثمانينيات حيث كان الحلم يُعاقَب بالسجن، وقدَم في شوارع السياسة العلنية حيث تُدافَع الأفكار ببيانات ومواقف صلبة.
كان آخر رجال جيل تعلّم السياسة على أرض ساخنة لا في قاعات مكيفة: كتبَ قناعاته بلغة الخطر أولا، ثم قرأ العالم بلغته الخاصة لاحقا. لذلك بدا خبر وفاته أقرب إلى استدعاء لذاكرة جماعية عن معنى أن تكون يساريا قبل أن يصبح اليسار بطاقة عضوية.
وُلد براهمة سياسيا في اللحظة الخطأ، وهذا ما منحه صلابته. مرّ شبابه عبر النقابة الوطنية للتلاميذ والحلقات السرية للماركسيين-اللينينيين، وهناك تشكّلت لغته الأولى: عدالة اجتماعية تُقاس بعرق العمال لا ببلاغات الحكومات، وديمقراطية هي حقُّ الناس في أن يقولوا «لا» دون أن يذهبوا إلى السجن.
وفي منتصف الثمانينيات، حين قررت الدولة أن تُربي الخوف في جيل كامل، حُكم عليه بعشرين سنة سجنا في قضايا «المؤامرة»، قضى منها تسع سنوات ثقيلة قبل أن يخرج بظهر مستقيم ونبرة لم تُكسر. لم يُساوم على سيرته، بل حملها كوسام شخصي لا يعلّقه على صدره، بل يضعه بينه وبين كل إغراء سياسي سريع.
حين انتقلت البلاد إلى فسحة الشرعية القانونية، لم يتزحزح كثيرا. أسهم في بناء «النهج الديمقراطي» بوصفه مأوى علنيا لذاكرة خرجت من السرّ إلى الضوء، وبقي على لغته: يسار يُسمي الأشياء بأسمائها، لا يضع قفازات حريرية على مفردات الاستغلال والهيمنة والتبعية.
كان من الصارمين في مقاطعة الانتخابات، لا عن كسل تنظيمي، بل عن قناعة بأن صندوقا بلا شروط عادلة لا يُنتج تمثيلا بل يُنتج واجهة. موقف كلّفه كثيرا من التباسات الفهم وسهام السخرية، لكنه بقي الرجل الذي يُفكّر من عتبة المبدأ قبل حساب المكسب.
في حضوره العام، لم يكن خطيبا يبحث عن التصفيق، بل سياسيا يبحث عن جملة أخيرة تُحاكم الواقع لا تُزيّنه. كان صوته خفيضا أحيانا، حادّا حين يلزم، لكن فيه دائما ما يذكّرك بأن هذا الرجل تعلّم الكلام وهو يضع يده على قضبان. ضحكته شحيحة، ومفرداته لمّاعة حين يتحدث عن الطبقات الشعبية و”البرجوازية الكمبرادورية” وحقّ الناس في خبز لا تُملّكه الأسواق. وحين تُساجله في التكتيك، يعود إلى الأخلاق كمرساة: السياسة بلا خط أخلاقي هي إدارة مصالح، لا إدارة شؤون عامّة.
لم يكن الرجل بلا تناقضات. فمن يختار العيش على العلوّ الإيديولوجي يُعرّض نفسه لتهمة «الطهورية» والانفصال عن الممكن. لكنه كان واعيا بثمن خياره؛ يفضّل خسارة مقعد نيابي على خسارةِ جملة نظيفة، ويختار أن يبقى «قلّة» صاخبة على أن يصير «كثرة» صامتة.
لهذا ظلّ مرجعا داخل يسار مشتّت: يستدعيه الناس حين يحتاجون إلى اسم لا يُساوم، ويخاصمونه حين يريدون حسابا آخر للسياسة. ولأنه عرف السجن قبل المنصب، حافظ على حساسية عالية تجاه خفّة بعض الخطابات: لم يكن يخلط بين النضال ومهنة التعليق، ولا بين المعارضة ومزاجية السوشال ميديا.
من يقرأ خطابه الأخير يفهم الرجل: فلسطين ليست ترفا رمزيا، والعدالة الاجتماعية ليست بندا انتخابيا، والكرامة ليست شعارا متحفيا من زمن اليسار الكبير. كان يصنع جسرا بين مفردات تُقال كثيرا وتُطبَّق قليلا. لذلك ترك أثرا في أوساط لا يجمعها الانتماء الحزبي بقدر ما يجمعها الشعور بأن السياسة بلا كلفة شخصية ليست سياسة.
اليوم وبعد رحيله، لا معنى لصناعة قدّيس جديد. فمصطفى براهمة لم يطلب ذلك في حياته، ولن يناله في موته. ما يستحقه أن تُقرأ سيرته كما هي: رجل من جيل دفع ضريبة الفكرة، وحاول أن يظل وفيّا لها في زمن التسويات.
يمكن أن تختلف معه في جدوى المقاطعة، وفي اقتصاد الشعارات، وفي حساب الممكن… لكن يصعب أن تُنكر أنه كان من القلة التي أبقت كلمة «اليسار» مُحمّلة بشيء من الجدّ، لا بالنوستالجيا وحدها.
إنه ليس رثاء رجل، بل سيرةُ مناضل لم يُطلّق الأمل رغم انطفاء كثير من الرفاق. ترك وراءه حزبا سيواصل جدله مع نفسه ومع الزمن، وترك وراءه معيارا بسيطا وقاسيا في آن: أن تقول ما تؤمن به، وأن تدفع ثمنه، وأن تموت وأنت في صفّ الفكرة لا في صفّ الفائدة.
هذا ما تبقى من مصطفى براهمة، وهذا ما يصلح أن يبقى.