ساعف: غياب الفرق بين عالم السياسة والمواطن العادي يفرغ النقاش العمومي من بعده المعرفي
أكد أستاذ العلوم السياسية و مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، عبد الله ساعف، أن علم السياسة يتمتع بهوية تخصصية واضحة، باعتباره موقعا فكريا له مناهجه وأدواته الخاصة، مشيرا إلى أن الإشكال في السياق المغربي يتمثل في تآكل هذه الحدود، لافتا إلى غياب الفرق بين عالم السياسة والمواطن العادي الذي لا ينتمي إلى الحقل الأكاديمي، سواء في النقاش العمومي أو في تلقي الخطاب من قبل المسؤولين.
و أوضح عبد الله ساعف، خلال الدرس الافتتاحي المعنون بـ”علم السياسة بالمغرب: المعرفة، السلطة، والمسؤولية الفكرية” الأربعاء 24 دجنبر 2025، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية و الإجتماعية بالرباط، أن عددا من الفاعلين السياسيين، وحتى بعض المؤسسات، يتعاملون مع مداخلات علماء السياسة باعتبارها مجرد نقد سياسي عادي أو معارضة ظرفية، في حين أن ما يقدمه الباحث في العلوم السياسية هو معرفة مؤسسة على معطيات وتحليل علمي، تختلف جذريا عن الرأي العام أو الانطباع الشخصي للمواطن.
وشدد المتحدث في هذا السياق على وجود خط فاصل بين المعرفة العادية التي ينتجها المواطن، والمعرفة العلمية التي يقدمها عالم السياسة، معتبرا أن تجاهل هذا التمييز يفرغ النقاش العمومي من بعده المعرفي، ويحوّل التحليل الأكاديمي إلى مجرد رأي ضمن آراء متداولة.
و أشار أيضا إلى أن هذا الحقل المعرفي، الذي يفترض أن يقوم على مناهج علمية دقيقة وتحليل مفاهيمي عميق، بات في كثير من السياقات “يختزل في تعليقات ظرفية وآراء عامة، أقرب إلى المعالجة الصحافية منها إلى التحليل الأكاديمي المؤسس”، مشيرا إلى في هذا الصدد الى عبارة المفكر المصري سمير أمين “علم السياسة إذا فقد قيمته سقط في تدهور و أصبح نوعا من الممارسة الصحفية”.
و أضاف ساعف أن الصحافة، رغم صعوبتها واحترامه لعدد من الصحافيين الكبار وقدرتهم على التقاط الوقائع وتحليلها، تظل حقلا مختلفا عن علم السياسة، من حيث الأسس والمنهج والدلالات، ولا يجوز الخلط بين خطاب مبني على مفاهيم علمية دقيقة وخطاب إخباري تحكمه قواعد مهنية أخرى.
وفي استعراضه لمسار العلوم السياسية بالمغرب، أشار ساعف إلى أن هذا الحقل عرف، منذ الاستقلال، تراكما معرفيا وأدبيات غنية، كانت موضوع معارك فكرية حقيقية، خاصة حول قضايا كبرى من قبيل الدولة، كما تجلّى ذلك في النقاشات التي جمعت أسماء وازنة مثل بول باسكون، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري.
وأوضح أن هذه الصراعات الفكرية، خصوصا خلال ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن هامشية، و إنما كانت تعكس اختلافات عميقة في المقاربات والمنطلقات، حيث انقسم الباحثون بين من يدافع عن تصورات عامة للدولة، ومن ينحاز لمقاربات سوسيولوجية ميدانية كما عند باسكون، وهو صراع كان يخترق الجامعة والتيارات الفكرية آنذاك.
وسجّل ساعف أن الغالب اليوم في حقل علم السياسة هو الجمع بين المقاربات النوعية، المتأثرة بأعمال كلود ليفي ستراوس، والمقاربات الكمية التي تعتمد الإحصائيات الدقيقة والمعطيات الرقمية، خاصة في فهم الدولة والضرائب والسياسات العمومية، معتبرا أن الرهان الحالي هو الربط بين الدقة الكمية والعمق النوعي.
وخلص أستاذ العلوم السياسية في مداخلته بالإشارة إلى العلاقة بين الانتماء السياسي والعمل الأكاديمي، مشيرا إلى أن الساحة الجامعية المغربية عرفت نماذج لأساتذة محزبين لم يروا تعارضا بين قناعاتهم السياسية والمقاربة العلمية، في مقابل تيار آخر اعتبر أن عدم الانتماء الحزبي شرط لضمان القيمة العلمية والحياد المعرفي، معتبرا أن هذا النقاش يظل مفتوحا، ويعكس في جوهره سؤال المسؤولية الفكرية لعالم السياسة، ودوره في إنتاج معرفة مستقلة.