زوبعة في جلباب الملك.. جدالات تكشف وعيا مختلفا ومخاطر مستجدة

ظلّ الحقل الديني في المغرب، منذ الاستقلال، مجالا محفوظا مطوقا بالقداسة، لا يقتصر على كونه رافعة رمزية، بل يشكّل أحد أعمدة الشرعية السياسية للدولة.
فإمارة المؤمنين ليست مجرد لقب دستوري يُتلى في نصوص رسمية، بل هي قاعدة النظام السياسي، وسند الشرعية التاريخية، ومصدر المرجعية العليا التي تستمد منها القرارات كيانها ووزنها.
وعلى امتداد العقود الماضية، ظلّت هذه المؤسسة بمنأى عن المنازعة، إذ ارتبطت في الوعي الجمعي بقداسة الدين، وبشرعية البيعة، وبشرف النسب، وبذاكرة مواجهة الاستعمار.
هذا البعد “الميتافيزيقي” لإمارة المؤمنين تعزز أكثر مع الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أعاد الملكية إلى دائرة التقليد وأعطاها بعدا روحيا واضحا، موظِّفا المرجعية الدينية في مواجهة خصومه السياسيين.
فالمسجد والخطبة والزاوية والزمن الديني كانت جميعها أدوات ضمن هندسة الحكم، بما يضمن احتكار الدولة للسلطة الرمزية والدينية. ومع اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999، شهد الحقل الديني توسعا غير مسبوق: إعادة هيكلة المجالس العلمية، مأسسة الزوايا الكبرى، إنشاء معاهد لتكوين الأئمة، ضخ ميزانيات هائلة في وزارة الأوقاف، ثم تصدير النموذج المغربي نحو إفريقيا وأوروبا كجزء من الدبلوماسية الروحية.
غير أن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها المغرب في العقدين الأخيرين، قلبت جزءا من المعادلة.
فالمجال الذي ظلّ محاطا بالتحريم والمناعة، لم يعد بمنأى عن الجدل والنزاع والخلافات. أحداث متفرقة ومتباعدة، لكنها متراكمة ومترابطة في العمق، أخذت تكشف عن هشاشة الهيمنة المطلقة على المجال الديني:
• إصلاحات مؤجلة مثل ورش مدونة الأسرة، الذي فتح نقاشا فقهيا-حقوقيا واسعا ثم بقي معلقا في مفترق الطرق بين الحداثة والمرجعية الشرعية.
• العزل المفاجئ لبعض الأئمة والخطباء، مثل حالة رئيس المجلس العلمي لفكيك، وما أثارته من جدل حول استقلالية العلماء وحدود تدخل الدولة.
• الجدال حول خطبة الجمعة وتوحيد نصوصها، حيث لم يتردد وزير الأوقاف في وصف المعترضين من الأئمة بـ”الخوارج”، وهو توصيف يفتح بابا خطيرا بين الديني والسياسي.
• قضايا حساسة مثل اعتقال الناشطة ابتسام لشكر بتهمة الإساءة للذات الإلهية، حيث وجدت الدولة نفسها مضطرة لتوظيف سلطتها لحماية المقدس، في لحظة تجسّد فيها التوتر بين حرية التعبير وحرمة العقيدة.
• أزمات داخلية في مؤسسات صوفية طالما اعتبرت حصنا منيعا للاستقرار، كما وقع في الزاوية البوتشيشية بعد وفاة شيخها جمال، وصراع أبنائه على المشيخة، وما كشفته التسريبات من تدخل رسمي في تسييرها.
هذه الوقائع، مجتمعة، تكشف أن المقدّس في المغرب يواجه لحظة مساءلة جديدة. وأن الحقل الديني، الذي ضُخّت فيه أموال طائلة (مضاعفة ميزانية الاستثمار 128 مرة خلال العقد الموالي لسنة 2003) واحتُكِرت مؤسساته بقوة القانون والظهائر… لم يعد قادرا على أن يبقى في منأى عن التحولات الاجتماعية وجرأة النقاش العمومي.
فالمواطنون لم يعودوا يتردّدون في الاحتجاج على موضوع خطبة الإمام كما نلاحظ في الشبكات الاجتماعية الرقمية، أو رفض خطبة، أو مساءلة فتوى، أو حتى “مقاطعة” صلاة الجمعة نفسها، كما قال رجل دولة سابق لكاتب هذه السطور قبل أيام قليلة.
إنها لحظة تاريخية فارقة: ما كان إلى عهد قريب موضوعا مسكوتا عنه، صار اليوم موضوع مساءلة ونقاش عمومي، يكشف في العمق عن تطور وعي جماعي جديد بأن تدبير الشأن الديني لم يعد شأنا فوقيا ومنزّها عن النقد، بل أصبح مجالا من مجالات السياسة العمومية، يخضع لامتحان الفعالية والمشروعية والقبول الاجتماعي، تماما كما هو الحال مع التعليم أو الصحة أو الاقتصاد.
*هذا المقال، هو جزء من ملف العدد 76 لمجلة “لسان المغرب”، لقراءة الملف كاملا، يرجى الضغط على الرابط