story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

زهران ممداني.. شاب مسلم يقترب من عمودية نيويورك

ص ص

خلال الأسابيع الأولى من هذه الصائفة، كانت شوارع نيويورك تغلي، لا من حرارة الصيف فقط، بل من حرارة السباق الانتخابي غير المسبوق نحو عمودية المدينة. الجميع كان يتحدث عن اسم واحد يتردد في كل حيّ وكل محطة مترو: زهران ممداني، شاب تقدمي، مسلم، ووجه جديد على مسرح السياسة الكبرى.

بدت المعادلة الانتخابية شبه مستحيلة. المال ضد الناس، النفوذ ضد الأفكار الشبابية لأقلية مهاجرة. لكن لحدود الساعة يتقدم ممداني على خصمه في الانتخابات التمهيدية ومن المرجح (إن لم تحدث مفاجآت) أن يحصد مقعد العمودية، ليكون أول شاب مسلم يُنتخب عمدة لمدينة نيويورك.


فوز زهران ممداني في انتخابات الحزب الديمقراطي في نيويورك يشكل لحظة فارقة في السياسة الأمريكية، إذ يعكس تحولات عميقة على المستويين السوسيولوجي والسياسي. يمكن النظر إلى هذا الفوز على أنه أكثر من مجرد صراع انتخابي، بل هو انعكاس لعملية اجتماعية وسياسية معقدة تتداخل فيها البنى الطبقية، والمحددات الديموغرافية، والتحولات الجيلية، فضلاً عن تفاعل قوى السلطة التقليدية مع الحركات التقدمية الجديدة.

يلقي هذا التحليل الضوء على دلالة الفوز بالانتخابات التمهيدية، ويتناول بعض الجوانب السوسيولوجية التي أثرت في فوز ممداني وكيفية تجاوزه لعديد من التحديات المرتبطة بهويته الثقافية والدينية.

1- من حيث دلالة الفوز:

قدّم ممداني برنامجًا انتخابيا اعتبره البعض “حالِمًا”، بينما رآه آخرون ثوريًا وضروريًا. برنامج يقوم على فلسفة بسيطة: جعل الحياة في نيويورك أسهل ومنخفضة التكاليف، من خلال برامج دعم للفقراء يركز على قضايا حيوية مثل تجميد الإيجارات، وسائل النقل المجانية، والرعاية الصحية الشاملة للأطفال، وهي قضايا تلامس احتياجات غالبية الناخبين من الطبقات المتوسطة والعاملة.

واجه هذا البرنامج سيلًا من النقد، ووسائل الإعلام الرأسمالية وصفته بـ”الانتحار الاقتصادي”. لكن عندما واجههم ممداني بالأرقام، وبقصص الناس الذين يعيشون في محطات المترو أو يعملون ثلاث وظائف لتأمين الإيجار، ظهر معارضوه أنهم مجرد بائعي كلام. وإذن، ففي قلب حملة زهران ممداني تكمن القضايا المعيشية التي تمثل جوهر معاناة الطبقات العاملة.

على النقيض، فإن خصم ممداني في الانتخابات اسم يعرفه الجميع: أندرو كومو، الحاكم السابق، رجل السياسة والمليارات، وممثّل التيار السياسي التقليدي والنخبة الحاكمة والمصالح الكبرى، العائد من الظل ليحاول استعادة مجده.

سخّر كومو نفوذه المالي وإعلامه، وبدأت الهجمات تنهال على ممداني: “راديكالي”، “خطر على أمن المدينة”، “معادٍ للسامية” — وكلها اتهامات فُسرت من قبل مؤيدي ممداني بأنها محاولات لتشويه سمعته بسبب دعمه العلني لحقوق الفلسطينيين.

لكن شيئًا ما كان مختلفًا هذه المرة. لم تكن نيويورك القديمة كما كانت. هناك أصوات جديدة، جيل جديد، طلاب، مهاجرون، فقراء، مسلمون، يهود تقدميون، سود ولاتينيون، وقفوا خلف زهران هاتفين: “نيويورك للجميع”!

وهنا لم تجد حملة كومو ما تقدمه، غير خطابات عتيقة غالبًا ما تبتعد عن الاهتمام المباشر بمشاكل المواطنين اليومية.

إن هذا الصراع الطبقي كان بمثابة خندق انتخابي أوضح ملامح الجبهة التقدمية في مقابل الجبهة التقليدية، حيث قدّم ممداني نفسه كـ “بديل حقيقي” للنخبة السياسية القائمة.

ممداني ليس مجرد مرشح عادي بل ظاهرة سياسية جديدة أقرب إلى حراك اجتماعي من الأسفل. وُلد ممداني في أوغندا لعائلة مسلمة من أصول جنوب آسيوية لأب هو من أهم الأكاديميين المتخصصين في الدراسات الديكولونيالية ودراسات التطهير العرقي، ونشأ في كوينز، قلب التنوع الثقافي في نيويورك.

صعد نجمه كعضو في الجمعية التشريعية للولاية. لقد تأثر فوز ممداني بالتحولات الديموغرافية في مدينة نيويورك، خاصة مع تزايد التنوع العرقي والديني في المناطق الحضرية. واستطاع جذب الناخبين الشباب، وخريجي الجامعات، والنشطاء السياسيين الذين يتبنون سياسات يسارية وتقدمية، خصوصًا في الأحياء مثل كوينز وأستوريا التي تتميز بتنوعها العرقي والديني.

هذا التحول يعكس نمطًا اجتماعيًا جديدًا يتسم بزيادة الوعي الطبقي بين فئات كانت سابقًا مهمشة في النظام السياسي الأمريكي.

وعلى الجانب الآخر، ظل دعم كومو قويًا بين الناخبين كبار السن، النساء، والناخبين من أصول إفريقية، وهي شرائح تميل تقليديًا نحو السياسيين الوسطين الذين يمثلون تيار الدولة العميقة.

2- العوامل المساهمة في الفوز الانتخابي


من أهم ملامح حملة ممداني كان قدرته على بناء تحالف عريض يضم مجتمعات جنوب آسيا، وشرق آسيا، ومجتمعات أمريكية من أصول إفريقية. هذا التحالف شكل قاعدة دعم متماسكة تمكّن من منافسة النخب التقليدية، وهو ما يعكس تحولًا جذريًا في الديناميكيات السياسية في نيويورك.

لم تقتصر حملة ممداني على الخطاب السياسي التقليدي، بل استفادت من استخدام اللغات المحلية ووسائل التواصل الثقافية مما سمح له بالوصول إلى أكبر عدد من الناخبين. دعم ممداني من جون ليو، السيناتور الآسيوي الأمريكي البارز، كان بمثابة شهادة على قوته السياسية في بناء جبهة موحدة من الأقليات العرقية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن حملة ممداني اعتمدت بشكل رئيسي على التنظيم القاعدي من خلال جيش من المتطوعين والنشطاء الذين تواصلوا بشكل مباشر مع الناخبين في محطات المترو وأماكن التجمع العامة. كما أن الحملة شهدت نشاطًا غير مسبوق على وسائل التواصل الاجتماعي، مما أعطاها زخمًا هائلًا ووسع دائرة التأثير بشكل سريع وفعال.

في المقابل، كانت حملة كومو مدفوعة بالتمويل الكبير والإعلانات التي تركز على الإعلام التقليدي، ما جعلها بعيدة عن الواقع اليومي للناخبين العاديين.

ومن مفارقات الفوز الصارخة، أن تكسبه مواقفه الجريئة، خاصة دفاعه القوي عن حقوق الفلسطينيين تفوقا في النزال الانتخابي بدل أن تضعفه. فعلى الرغم من الحملة التي شنتها ضده أقوى لوبيات الضغط في البلاد، فقد استطاع أن يحولها إلى نقطة قوة.

في إحدى المناظرات الانتخابية سُئل ممداني عن موقفه من زيارة إسرائيل كعمدة لنيويورك، فأكد أنه لا يرى ضرورة لزيارة إسرائيل ليُعبّر عن دعمه للمجتمع اليهودي في المدينة. بدلاً من ذلك، قال إنه يفضّل التواصل مع السكان اليهود في أماكنهم داخل نيويورك: في المعابد أو المنازل.

أزاح هذا التصريح الكثير من المخاوف لدى بعض المترددين، وأبان عن خيال سياسي بارع. أكثر من ذلك، لقد ساهم هذا الخيال السياسي في صهر لقاء وثيق الصلة بين مطالب العدالة الاجتماعية وحركة التضامن مع غزة ذات الحضور القوي في نيويورك.

يتعين الإشارة أيضا إلى أنّ نظام التصويت التفضيلي (Ranked-Choice Voting) كان من العوامل الحاسمة التي ساعدت في فوز ممداني. فقد ساهم هذا النظام في جمع الأصوات التي كانت موجهة لمرشحين تقدميين آخرين في المرحلة الثانية أو الثالثة، مما أدى إلى تحويل الدعم لصالح ممداني في مرحلة الحسم، بينما كانت الحملة التي قادها كومو تفتقر إلى القدرة على كسب الأصوات بعد الجولة الأولى.

3- مقاومة الإسلاموفوبيا في الحملة الانتخابية

رغم كونه مسلمًا من خلفية جنوب آسيوية، لم يكن هذا العنصر دافعًا ضد فوز ممداني بل ربما شكل نقطة قوة في سياقات معينة. التغير الديموغرافي في نيويورك، خاصة في الأحياء متعددة الأعراق، جعل من هويته الثقافية والدينية جزءًا من النسيج الاجتماعي، ولم يُنظر إليها كـ “غربة” أو “اختلاف”. بل إن انتماءه الثقافي كان يمثل رمزًا للتعددية والقبول الاجتماعي، مما أتاح له أن يقطع مع خطاب الإسلاموفوبيا الذي حاول منافسوه من خلاله التأثير عليه.

يظهر هذا المعطى تجاوز نيويورك بأجيالها من الشباب لمضايق أحداث 11 شتنبر وآثار الحرب على الإرهاب التي خيمت على الحياة العامة في المدينة لعقدين من الزمن.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيز زهران على القضايا الطبقية والعدالة الاجتماعية بعيدًا عن التركيز على هويته الدينية جعل حملته أكثر جذبًا لفئات متنوعة من الناخبين.


وتعد الأجيال الشابة، التي تمتاز بوعي تقدمي عميق، من العوامل الأساسية التي ساعدت في دفع ممداني نحو الفوز.

جيل الشباب، خاصة في المناطق الحضرية الكبرى مثل نيويورك، يولي اهتمامًا أقل لهويات السياسيين الدينية أو العرقية وأكثر لجدوى سياساتهم الاجتماعية والاقتصادية. كان هذا الوعي التقدمي عاملًا مهمًا في تجاوز حملات الإسلاموفوبيا.

خلاصة:

على الرغم من فوزه في الانتخابات التمهيدية، لا يزال أمام زهران ممداني تحديات كبيرة في الانتخابات العامة وفي حال فوزه بالعمودية، سيواجه مقاومة شديدة من المنظمات الاقتصادية الكبرى والنخبة السياسية التي ترى في سياساته التقدمية تهديدًا لمصالحها.

كذلك، سيحتاج إلى تحقيق توازن بين تطلعات الناخبين من الطبقات العاملة والطبقات العليا التي ستكون معارضة لتوجهاته في مجال إصلاحات الإيجارات وإعادة توزيع الثروة. كما أن عليه أن يواجه التحديات التقليدية المرتبطة بالحكم الفعلي، مثل البيروقراطية السياسية داخل مدينة نيويورك وضغوط اللوبيات المختلفة.


وفي المجمل، فإنّ فوز زهران ممداني في انتخابات الحزب الديمقراطي يعكس تحولات سوسيولوجية عميقة في المجتمع الأمريكي، خاصة في سياق نيويورك التي تشهد تعددية عرقية ودينية متزايدة.

كما يعبّر فوز ممداني عن صعود طبقات اجتماعية جديدة تسعى للمساواة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، ويُظهر أن النظم التقليدية للمشاركة السياسية قد تتغير بفضل التطور الديموغرافي والوعي السياسي الجديد.

ومع ذلك، فإن التحديات التي ستواجهه في مسيرته السياسية المقبلة ستظل قائمة، حيث سيحتاج إلى بناء جبهات أوسع والتمسك بمبادئه التقدمية في وجه مقاومة النخب السياسية والاقتصادية.

*عزالدين العزماني

** باحث متخصص في العلوم السياسية ودراسات الإسلام المعاصر. حاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاضي عياض بمراكش، وعلى دبلوم متخصص في الدراسات الدينية المقارنة من جامعة هارتفورد الدولية بكونيكتكت (الولايات المتحدة الأمريكية). يشغل منصب محاضر رئيسي بكلّية ترينيتي (هارتفورد، كونكتيكت).