story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

روح (بنبركة) عْزيزة..

ص ص

في الذكرى 60 لاختطاف المهدي بنبركة، يصدر في باريس كتاب يزعم أنه “ينهي الأسرار”، بينما ما يفعله حقا هو دفعنا لإعادة تركيب المشهد على ضوء معطيات كانت موزّعة بين أرشيفات مغلقة وشهادات مبتسرة، والضمير العام الذي لم يشفى أبدا من جرح 29 أكتوبر 1965.

أكتب هذه السطور وأنا أحمل خلاصة شخصية اشتغلتُ عليها نحو ربع قرن: الموساد لم يكن “طرفا مساعدا” أو “وظيفيا” فحسب؛ بل كان الفاعل الحاسم، من زاوية المصلحة السياسية الأمنية (تصفية واحد من أكبر مناوئي المشروع الصهيوني دينامية في العالم)، ومن زاوية التحكم في لحظة الجريمة وأدواتها ولوجستياتها وابتزاز شركائها.

الكتاب الذي وضعه ستيفن سميث ورونين برغمان، الصادر عن دار “غراسيه”، لا يكتفي، حسب ما نشر حوله حتى الآن، بوصف “تعاون” بات ثابتا بين أجهزة استخباراتية؛ بل يقدّم سردية عملية كاملة تحمل اسما رمزيا هو “إيترنا”، حيث انتقل الدور الإسرائيلي، بحسب ما عرضته “لوموند” و”لُكسبريس” الفرنسيتين، من إسناد لوجستي إلى مساهمة عملية في إخفاء الجثمان وإتلاف آثاره، في سياق تبادل ثمين: تسجيلات قمة الدار البيضاء العربية مقابل “رأس” بنبركة.

تقول “لكسبريس” إن الوثائق التي اطلع عليها المؤلفان تبيّن كيف تحوّل “الدعم” إلى إمداد بوسائل وتوصيات تفصيلية لإخفاء الجثة، وصولا إلى استخدام الصودا الكاوية لتذويب الجثة، وأن المكسب الاستخباراتي الإسرائيلي من تبادل التسجيلات سيُستثمر لاحقا في حرب 1967.

أما “لوموند” فتعرض، في عنوان فَجّ ومعبِّر، أن بنبركة “أُغرِق في حوض الاستحمام”، وتعيد ربط المشهد بمحاضر لقاءات ومنازل آمنة وأدوات اشتراها عميل للموساد قُبيل التنفيذ.

لا أحتاج إلى كثير عناء لأقول إن هذا الخطّ يتقاطع عميقا مع رواية مغربية موثّقة ظلّت عندي مرجعا حيا: ما كتبه الصحافي الراحل مصطفى العلوي، وما أسرّ به وهو يتتبع خيوط المحاكمة التي أعقبت الاختطاف، ويجاور الجنرال أحمد الدليمي ويترجم شهادات شهود، ويقرأ من الداخل طبيعة صفقات ذلك الزمن ومزاج رجاله.

كنتُ، وأنا أستمع إليه لاحقا ونحن نفكّك ذاكرة الصحافة والقصر والدولة والمعارضة، أزداد اقتناعا بأن الدور الإسرائيلي تجاوز سقف رغبات باقي الأطراف.

وما يلفت في الكتاب الجديد ليس تأكيد الدور الإسرائيلي، فهذه حقيقة طافت طويلا في الصحافة والتحقيقات، وسُجن بسببها صحافيان إسرائيليان عام 1966، وكشفها كتاب صدر منتصف 1983، لصاحبه “يورام بيري”، المستشار السياسي لرئيس الوزراء الأسبق “إسحاق رابين”، عنوانه “ما بين الحروب وصناديق الاقتراع”، وخصصه لشرح الخلافات الخطيرة التي تنخر الهيكل العسكري والحكومي الإسرائيلي، وقدم قضية المهدي بنبركة، كعنصر أساسي في خلق الخلافات بين المدنيين والعسكريين…

ما يلفت الانتباه حقا هو طريقة النسج. تفاصيل شراء مجارف وفؤوس ومصابيح يدوية وعبوات من هيدروكسيد الصوديوم من متاجر باريس، ونقلها إلى شقة سان-كلو الآمنة المؤجّرة سلفا، واجتماع “التنسيق” ليلا قرب الشانزليزيه، ودروس باردة في “كيفية حفر “القبر” وإعادة الطبقة النباتية” حتى لا يترك المجرمون أثرا…

هذه ليست إضافة للتاريخ بقدر ما هي صفعة لأخلاق الدولة في زمن الحرب الباردة؛ صفعة تقول إن أوروبا الديمقراطية كانت تعرف، وإن الرباط كانت ترى، وإن تل أبيب كانت تُمسك بالخيط من طرفيه.

ومع ذلك، لا تُبرّئ هذه الخلاصة أحدا. المغرب شريك ومسؤول سياسيا وأخلاقيا عن تسليم قرار حياة معارضه لأسنان أجهزة بلا كوابح. وفرنسا، التي يَدين كتاب مثل هذا جزءا من مادته لأرشيفاتها وأذرعها القديمة، كانت جزءا من شبكة التنفيذ والتغطية والسكوت المُمنهج. وإسرائيل، التي حوّلت قضية مغربية إلى لحظة تأسيس في علاقة أمنية ممتدة مع الرباط، فعلت ما تفعله أجهزة تعتقد أن التاريخ يُصنع في غرف بلا نوافذ.

لكن ما الذي يهمّنا اليوم، بعد ستين عاما؟

يهمّنا أن نعترف، نحن المغاربة قبل غيرنا، بأن ملف بنبركة ليس من نوع القضايا التي تُدبَّر بنسيانها. فالرجل الذي انطلق من قلب المؤسسة الرسمية، كمعلّم رياضيات لولي العهد، ورئيس أول مجلس استشاري، ثم انقلب إلى رافع لخطاب ملكية دستورية صلبة ووحدة ترابية مكتملة واستقلال اختيارات عقدية، ليس مجرد اسم في نشرة ذكريات.

إن حضور نبركة في وعي الأجيال يتجدّد كلما خاض الشباب معركةَ كسرِ الخوف، وكلما نهضت حركة حقوقية أو موجة مطلبية تطلب أفقا أعدل وأكثر شفافية في الحكم والثروة والتداول.

ولأنّ الحقيقة ليست نقيض المصالحة، بل شرطها، فالسؤال السياسي لا يزال قائما: هل نملك شجاعة تحويل هذا الإرث من قضية معلّقة إلى درس مؤسِّس؟

درس يقول إن أجهزة الدولة، في الرباط وباريس وتل أبيب، لم تعد قادرة على حماية أسرارها إلى الأبد، وأن الأمنَ الذي يتذرّع بالمصلحة الوطنية ليقتل الحقيقة، يقتل معها ما يبرّر وجوده.

هنا يصبح المفيد في كتاب جديد ليس ما يكشفه من أدوات الجريمة فقط، بل ما يفضحه من بنية ذهنية حكمت تلك الحقبة: دول فوق القانون، وتحالفات فوق السيادة، ومصالحُ فوق إنسانية الإنسان.

والآن، في هذا اليوم الخاص، ومن قلب العاصمة الفرنسية باريس حيث صدر الكتاب الجديد، نعيد قراءة الحدث المؤسِّس لجرحنا السياسي الأكبر. تلك العملية الآثمة التي حرمت التقدميين والديمقراطيين والوطنيين في القارات الخمس، وأجيالا من المغاربة، من الإشعاع الكوني للشهيد بنبركة.

تعود الذكرى، ويعود معها حضور الرجل المضيء فكرا وممارسة، سياسة وتنظيما. رجل الجرأة التنظيمية والواقعية السياسية معا، صديق قادة التحرّر وشعوب الممانعة، ونبراس وعي ديمقراطي يتجدّد كلما اشتدّت الحاجة إلى معنى الدولة العادلة.

في اسمه تتكثّف أسماء الشهداء، وفي قصته تتقاطع ساحات الشرف، من الشارع العام إلى الأقبية، ومن المنفى إلى المنصة البرلمانية. في كل مرّة يحمل الشباب المشعل، يخرج المهدي من كتب التاريخ إلى منابر الحاضر، ليقول: لا دولة بلا دستور فعلي، ولا سيادة بلا عدالة، ولا مصالحة بلا حقيقة.

لذلك، فإن الوفاء لذكراه اليوم ليس أن نعلّق صوره ونُكثر من المراثي، بل أن نُصرّ على ما طالب به من داخل النظام يوم كان النظام يحتملُ النقد: ملكية تنضبط للدستور، واقتصاد وطني بلا ريع، وجهاز أمني تحت سقف القانون لا فوقه، وإعلام حرّ يضع أصابعه على الجرح.

ستون عاما من الغياب… وستون عاما من الحضور. واسم المهدي، عريس الشهداء، باق ما بقيت أسئلة المغرب الكبرى معلّقة بين حنين إلى دستور يَحكم فعلا ولا يزيّن الواجهة، ورغبة في دولة تحمي لا تنتقم، وشعب يريد أن يعرف: من أصدر الأمر، ومن نفّذ، وأين بقية الجسد؟

إلى أن نسمع الجواب كاملا، سيظلّ يوم 29 أكتوبر موعدا للديمقراطية كي تراجع غيابها، وللدولة كي تُراجع ذاكرتها، ولنا جميعا كي نُراجع ضمائرنا.

وفي الطريق نحو ذلك، كل وثيقة تُكشف، وكل اعتراف يُقال، ليس خاتمة للقضية، بل خطوة في اتجاه واحد لا بديل عنه: الحقيقة ثم العدالة، وبعدهما فقط، المصالحة الحقّة.