رهانات التمكين ومآزق التفعيل: دروس من مناظرة الاقتصاد التضامني ببنجرير

1- المناظرة الوطنية بين الرمزية السياسية والحاجة إلى تقييم فعلي للسياسات
شكلت المناظرة الوطنية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، المنعقدة بمدينة بنجرير يومي 17 و18 يونيو 2025، محطة استراتيجية في مسار إرساء دعائم هذا القطاع بالمغرب. وقد عكست هذه التظاهرة دينامية مؤسساتية ومجتمعية متصاعدة تؤطرها إرادة سياسية واضحة لتعزيز الاقتصاد التضامني باعتباره رافعة للتنمية المستدامة والإدماج الاجتماعي والاقتصادي. وتجلت أهمية الحدث في الحضور الوازن لعدد من الفاعلين رفيعي المستوى، من رئيس الحكومة إلى الوزراء والمسؤولين الحكوميين وممثلي المؤسسات الوطنية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، مما يعكس الأهمية المتنامية التي يحظى بها هذا القطاع في أجندة السياسات العمومية، انسجاما مع التوجيهات الملكية الرامية إلى بناء “اقتصاد متضامن”.
وقد شكل توقيع مجموعة من الاتفاقيات بين الحكومة ومكونات القطاع الخاص والتعاونيات مؤشرا على الانتقال من مستوى التنظير إلى مستوى الفعل، خاصة من خلال التركيز على تفعيل آليات التمويل المستدام، كصندوق دعم الاقتصاد الاجتماعي الذي تم إحداثه خلال المناظرة الثانية للقطاع التي انعقدت سنة 2017 في إطار تفعيل القانون الإطار رقم 112.12، كآلية تمويلية رائدة. إلا أنه واجه صعوبات في تنفيذه. وكذا تعزيز أنماط الحوكمة التشاركية خاصة مع تعدد الفاعلين وتداخل اختصاصاتهم وتعدد الاتفاقيات الموقعة، والتي تصطدم بغياب آلية مستقلة لتتبع التنزيل والتنفيذ مما يفقدها الفعالية. بما يضمن انخراطا فعالا لمختلف الفاعلين في تنزيل السياسات المرتبطة بالقطاع.
سلطت الجلسات الافتتاحية والورشات الموضوعاتية والماستر كلاس خلال المناظرة الوطنية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني الضوء على عدد من الإشكالات البنيوية التي تعيق اندماج هذا القطاع ضمن الدينامية التنموية الوطنية. وقد تم تناول قضايا محورية، من بينها إدماج الاقتصاد الاجتماعي في المخططات التنموية المحلية، وتحديات التمويل والولوج إلى الأسواق، بالإضافة إلى دور التحول الرقمي والتكنولوجيات الحديثة في تعزيز الشمولية والفعالية. وتميزت هذه الفضاءات بتعدد وتنوع المشاركين، من باحثين وخبراء وممثلين عن التعاونيات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية، ما أسهم في إغناء النقاش وتعدد زواياه. غير أن هذا الزخم أبرز كذلك فجوة ملحوظة بين الخطابات الرسمية المروجة للسياسات العمومية، من جهة، والواقع الميداني الذي يواجه إكراهات هيكلية كالبيروقراطية الإدارية وضعف البنيات التحتية، خاصة في المناطق القروية والهامشية.
وعلى الرغم من أن المشاركة الواسعة للجمعيات والتعاونيات تعكس دينامية مجتمعية قاعدية متزايدة، فإنها تطرح في الآن ذاته تساؤلات حول مخاطر التسييس المحتمل لهذه المبادرات، لا سيما في سياق انتخابي، حيث قد تُستثمر مثل هذه الفضاءات لأغراض حزبية أو دعائية. وهو ما يسلط الضوء على إشكالية استقلالية المبادرات التضامنية عن الأجندات السياسية، خاصة في ظل تقارير تشير إلى توظيف بعض التعاونيات كأدوات لخدمة أهداف انتخابية. في المقابل، كشفت مشاركة الغرف المهنية، كالفلاحة والصيد البحري، عن اهتمام متزايد من قبل القطاع الخاص بتبني نموذج الاقتصاد التضامني، وإن كان ذلك مشروطا بضرورة توفير ضمانات حقيقية لتحقيق منافسة عادلة وتكافؤ في الولوج إلى الموارد والفرص.
2- الجامعة كفاعل تنموي جديد: تقاطع البحث العلمي، التخطيط العمومي، والتأثير الرمزي
يمكن اعتبار المعلمة الجامعية لجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بمدينة بنجرير واحدة من أبرز معالم القوة الرمزية والتنظيمية التي ميزت المناظرة الوطنية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ليس فقط من حيث البنية التحتية المتطورة، بل بوصفها أيضا تجسيدا حيا لنموذج تنموي جديد يراهن على المعرفة، والابتكار، والتجريب كمداخل لتطوير السياسات العمومية. فقد ساهمت واجهة الجامعة وبنيتها المتطورة في تعزيز صورة الحدث إعلاميا، إذ ظهرت المناظرة في تغطيات وسائل الإعلام كفعالية راقية وذات بعد استراتيجي، مما ساعد على تغيير الصورة النمطية عن الاقتصاد الاجتماعي بوصفه قطاعا هامشيا أو تقليديا. فقد جاء الحدث بصيغة حديثة، في فضاء يعكس روح المستقبل والابتكار، وهو ما أضفى على الخطاب الرسمي بعدا إضافيا، وإن كانت هناك انتقادات تتعلق بالمضامين والسياسات، إلا أن الإطار العام ساعد على تقديم المناظرة كواجهة واعدة.
فاختيار الجامعة كمقر للمناظرة لم يكن اختيارا تقنيا فحسب، بل حمل دلالات سياسية وفكرية عميقة. إذ يعكس رغبة في ربط النقاش حول الاقتصاد التضامني بمكان إنتاج المعرفة والعلم، في قطيعة رمزية مع النمط الكلاسيكي الذي غالبا ما يربط مثل هذه المناظرات بالمقرات الإدارية أو الفنادق. وبهذا، فإن المعلمة الجامعية لم تكن مجرد فضاء للاستقبال، بل رسالة بأن مستقبل الاقتصاد التضامني لا ينفصل عن رهانات التكوين، والبحث العلمي، والتفكير في نماذج تنموية بديلة.
وقد ساعدت الجامعة ببنيتها المعمارية الحديثة وتجهيزاتها المتقدمة، على إعطاء المناظرة بعدا احترافيا، سواء من حيث جودة التنظيم، أو من حيث الهوية البصرية والتقنية للحدث. فالمرافق الذكية، وقاعات العرض المتطورة، والربط الرقمي الفعال، ساهمت في خلق بيئة مريحة ومحفزة للنقاش والحوار. كما أن استخدام الفضاء الجامعي عزز من صورة المناظرة على الصعيد الوطني والدولي، حيث بدا الحدث مؤطرا ضمن تصور استراتيجي جديد لمكانة الاقتصاد التضامني في النموذج التنموي المغربي.
لكن إقامة المناظرة داخل مؤسسة أكاديمية ذات إشعاع بحثي متنام، مثل جامعة محمد السادس، أعاد طرح سؤال مهم: ما مدى قدرة البحث العلمي على مواكبة وتقييم وتوجيه السياسات العمومية، وخصوصا في مجال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني؟ هذا الربط بين الجامعة والمناظرة يفتح الباب أمام انبثاق شراكات جديدة بين الدولة والجامعات من أجل بناء سياسات مبنية على المعرفة والمعطيات، لا فقط على الشعارات والخطابات. فالجامعة يمكن أن تتحول إلى مرصد، ومختبر حي، ومصدر للبيانات والتقييمات الدقيقة. فبالرغم من الدور الإيجابي لهذه المعلمة في إنجاح الحدث من الناحية الشكلية والتنظيمية، تبرز مفارقة مهمة: هل تعكس هذه الصورة البراقة تحولا فعليا في عمق السياسات الموجهة للاقتصاد التضامني، أم أن الأمر لا يعدو كونه توظيفا رمزيا لفضاء متقدم لإخفاء استمرار الإشكالات البنيوية ذاتها؟ هذه المفارقة تطرح التحدي الأكبر: كيف نحول الدينامية التي يمثلها هذا الفضاء الجامعي إلى محتوى ملموس، ينعكس فعلا على حياة التعاونيات، والعاملين في القطاع، خصوصا في المناطق الهامشية.
3- الفجوة بين الرؤية الرسمية والواقع البنيوي
نجحت المناظرة الوطنية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني في إرساء فضاء حواري متعدد الأطراف، أتاح الفرصة لتبادل وجهات النظر المتنوعة حول سبل تطوير هذا القطاع الحيوي وتعزيز دوره كرافعة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وقد ساهم هذا التنوع في إثراء النقاشات، وجعل من المناظرة محطة مركزية للتلاقي بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، بما يعكس أهمية الاقتصاد التضامني في السياسات العمومية الوطنية. غير أن هذا النجاح الظاهري لم يمنع ظهور فجوة واضحة بين الطموحات المعلنة والإكراهات الهيكلية التي تعيق ترجمة هذه الطموحات إلى واقع ملموس على الأرض.
ومن أبرز التحديات التي كشفت عنها أشغال المناظرة هي صعوبة الحفاظ على الزخم الذي أحدثته النقاشات، وتحويلها إلى سياسات عامة فعالة ومستدامة ترتكز على مبادئ العدالة المجالية والتوزيع العادل للثروات. هذا التحدي الذي يتطلب إبعاد النقاشات والسياسات المرتبطة بالاقتصاد التضامني عن أية أجندات انتخابية أو حسابات ظرفية قد تؤثر على مصداقيتها وفعاليتها. فالحفاظ على استمرارية الدينامية وإعطاؤها طابعا استراتيجيا يتطلب إرادة سياسية قوية وقدرة على التنسيق بين مختلف الفاعلين لضمان تنزيل السياسات بشكل شامل وموحد.
أما على المستوى التنظيمي، فقد سجلت المناظرة مجموعة من الملاحظات السلبية التي أثرت على جودة الحدث، منها التأخر الملحوظ في انطلاق الجلسات، والتسرع في إدارة المناقشات، وعدم الالتزام بالبرنامج الزمني الموضوع مسبقا. هذه التجاوزات تعكس محدودية الاحترافية في التنظيم، وتضعف من قدرة المناظرة على تحقيق أهدافها بشكل مثالي. كما أن تكرار مثل هذه الإشكالات في عدة فعاليات حكومية يطرح تساؤلات جدية حول مدى جدوى الاستثمار في مثل هذه التظاهرات في غياب تخطيط وتنظيم محكمين يضمنان استغلال الموارد المتاحة بأفضل صورة.
كما برز خلال المناظرة تراجع ملحوظ في نسبة الحضور خلال اليوم الثاني، وهو أمر شائع في العديد من الفعاليات الكبرى، إلا أنه يعكس في هذه الحالة نوعا من الفتور لدى المشاركين نتيجة للرتابة في محتوى الورشات، وضعف عنصر التجديد، وعدم وضوح الأهداف والمخرجات المنتظرة منها. ويضاف إلى ذلك غياب حوافز ملموسة تحفز المشاركة الفاعلة، كمنح شهادات معتمدة أو ضمانات لتنزيل التوصيات خاصة وأنها تتكرر في كل مناسبة، مما يقلل من اندماج المشاركين ويحد من تأثير الحدث.
في جانب آخر، لوحظ تركيز مفرط على التغطية الإعلامية والبعد الاستعراضي للمناظرة، حيث بدا أن جزءا كبيرا من الفعالية موجه لصناعة صورة إعلامية إيجابية أكثر منه لتقييم السياسات وتفعيل آليات المساءلة والتخطيط الجماعي. هذا الأمر يتناقض بشكل واضح مع الأهداف المعلنة للمناظرة التي سعت إلى إرساء فضاء تشاركي فعلي وتقييم حقيقي لمآلات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ويطرح تساؤلات حول مدى قدرة هذه الفعاليات على تجاوز الطابع المناسباتي وتحقيق نتائج فعلية ومستدامة.
4- اتجاهات متكررة وتحديات قائمة
يمثل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أكثر من مجرد قطاع ناشئ، إذ يشكل اختبارا حقيقيا لمدى التزام الدولة بتفعيل مبادئ العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي. ورغم التوصيات المتكررة المتعلقة بالتمويل، وإصلاح الإطار القانوني، وتسهيل ولوج التعاونيات إلى الأسواق، تظل هذه التوصيات حبرا على ورق ما لم تتحول إلى سياسات عمومية فعالة ومنبثقة من الواقع الميداني تعود بالنفع على الفئات المهمشة. ويعوق الطابع المناسباتي للمناظرات تفعيل إصلاحات حقيقية، خصوصا مع غياب الجدة في بعض المقترحات وانفصالها عن واقع الفئات الهشة، ولا سيما النساء العاملات في التعاونيات القروية، مما يطرح تساؤلات حول مدى تمثيلية هذه السياسات لمصالح الفاعلين المحليين. ومن خلال المناظرة الحالية وسابقاتها الأربع، تظهر اتجاهات ثابتة تتمثل في تكرار المحاور نفسها دون تحقيق اختراقات ملموسة، مع استمرار فجوة بين الخطاب الرسمي والواقع البنيوي.
• نمطية التوصيات: بالرغم من أن المناظرة الأولى (2015) أقرت بدور الاقتصاد التضامني في تحقيق العدالة الاجتماعية، وطرحت مشروع القانون الإطار 112.12، الذي تمت المصادقة عليه لاحقا سنة 2017. إلا أن الإطار القانوني لا زال يتكرر في كل مناظرة إلى جانب محاور أخرى كالتمويل والتكوين دون إحداث اختراقات حقيقية أو حلول مبتكرة؛
• الفجوة بين الخطاب والممارسة: فغالبا ما يتم توصيف الإشكالات بدقة في التقارير الرسمية، كمحدودية ولوج التعاونيات للأسواق الكبرى، وضعف التنسيق بين القطاعات الوزارية المعنية. لكن تظل مؤشرات الأداء غائبة، ما يعيق التتبع والمساءلة؛
• استمرار المركزية: رغم الخطاب المتكرر حول الجهوية المتقدمة، لا تزال جل المبادرات متمركزة في مؤسسات مركزية، مما يحد من فاعلية الفاعلين المحليين؛
• دور محدود للمجتمع المدني: رغم الحضور القوي للجمعيات، يبقى تأثيرها الفعلي في صناعة القرار ضعيفا، في ظل طغيان الاعتبارات السياسية على البعد التنموي. وإذا كانت المناظرة الرابعة (2022) التي تناولت موضوع الرقمنة واستجابة ما بعد الجائحة قد سلطت الضوء على انهيار قرابة 30% من التعاونيات خلال 2020-2021. وبالتالي كان مخرجاتها تسهيل الإجراءات الإدارية (مثل اعتماد النافذة الوحيدة)، غير أن الانتقادات طالت ضعف البيانات الإحصائية حول العاملين في القطاع، ما يحد من إمكانات التخطيط الاستراتيجي؛
• تسييس الفعاليات: تحول بعض اللقاءات إلى منصات للترويج السياسي، بدل كونها فضاءات لتقييم السياسات وتوجيهها بناء على المعطيات الميدانية؛
5- خاتمة: من الحدث إلى الفعل السياسي
تكشف المناظرات الوطنية المغربية عن مفارقة متكررة تتمثل في وجود تشخيص دقيق ومتراكم للإشكالات التي يعاني منها الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يقابله عجز بنيوي في تحويل هذه التشخيصات إلى إجراءات تنفيذية فعالة. ومن ثم، لا ينبغي النظر إلى هذه المناظرات كغاية في حد ذاتها، بل كمراحل ضرورية للتقويم والمساءلة، تهدف إلى إنتاج سياسات عمومية واضحة وموجهة تُحدث تأثيراً ملموساً على أرض الواقع. فالاقتصاد الاجتماعي والتضامني يتجاوز كونه قطاعًا داعمًا فقط، ليصبح رهانًا استراتيجيًا على نموذج تنموي بديل يرتكز على مبادئ العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي للفئات الهشة، ويُعد اختبارًا حقيقياً لمدى التزام الدولة بتجسيد شعارات الإنصاف والجهوية والتنمية المتوازنة.
ومن أجل تحقيق نقلة نوعية في مسار هذه المناظرات، يُقترح اتباع عدة إجراءات أساسية، منها: إجراء تقييم نقدي شامل لتوصيات الدورات السابقة، يقيس مدى تنفيذها وفعاليتها قبل اعتماد توصيات جديدة؛ ربط التوصيات بالموازنات من خلال تخصيص نسب محددة من ميزانيات الجماعات الترابية لبرامج الاقتصاد التضامني، لضمان تمويل حقيقي ومستدام؛ وتعزيز آليات المساءلة عبر إنشاء مرصد وطني مستقل يتولى متابعة تنفيذ التوصيات وقياس أثرها، مع إشراك المجتمع المدني في الرقابة عبر نشر تقارير دورية تعزز الشفافية والمساءلة.