story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حرب بلا منتصر!

ص ص

بإعلان الرئيس الأمريكي ترامب وقف إطلاق النار ليلة 24 يونيو الجاري، مباشرة بعد التصدي لهجوم صاروخي إيراني على القاعدة العسكرية الأمريكية (العديد) في قطر، تكون الحرب بين إيران وإسرائيل/أمريكا قد وضعت أوزارها، وقد تدخل المنطقة بموجبها مرحلة جديدة.

بيد أن إعلان وقف إطلاق النار لا يعني إنهاء مسار الحرب، لكنه خطوة إجرائية قوية نحو العودة إلى مسار المفاوضات، والتي قد تنجح في التوصل إلى اتفاق سياسي جديد بين أطراف الصراع، ويعكس توازن قوى جديد فيما بينها. أو قد تكون تلك المفاوضات مجرد تهدئة قصيرة أو طويلة قبل العودة إلى الحرب مجددا.

كيف يمكن تقييم الوضع الجديد بعد إعلان وقف إطلاق النار؟ وهل أفضت الحرب بين إيران وإسرائيل إلى توازن جديد للقوة؟ وما آثار ذلك على توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط ككل؟

في الطريق إلى إعلان وقف إطلاق النار

لنلاحظ أن الرئيس الأمريكي ترامب أعلن عن وقف إطلاق النار دون أن يتحدث عن اتفاق بمضمون واضح. ما هو معلن عنه حتى لحظة كتابة هذه الورقة، هو إعلان لوقف العمليات القتالية الحربية بين الطرفين تلتزم به إيران خلال 6 ساعات الأولى ينهي خلالها الجانبان “مهامهما الأخيرة”. ثم تلتزم به إسرائيل ثانيا لمدة 6 ساعات أخرى حتى حدود الساعة 12 ظهرا من يوم الأربعاء 24 يونيو الجاري. وبعد انقضاء 24 ساعة من الهدنة بين الطرفين سيُعلن رسميا عن وقف الحرب التي استمرت 12 يوما (13 يونيو- 24 يونيو 2025).

وقال ترامب في بيان له: “خلال فترة وقف إطلاق النار من أي جانب، يتعهّد الطرف الآخر بالبقاء في حالة سلم واحترام كامل”، مؤكدا أن الاتفاق يجسّد قدرة الطرفين على “امتلاك الصبر والشجاعة والذكاء لإنهاء الحرب”. مشددا أن صراعا طويلا ومدمرا لمنطقة الشرق الأوسط “لم يحدث، ولن يحدث أبدا”.

هناك ثلاث تطوّرات مكّنت من الوصول إلى إعلان اتفاق وقف إطلاق النار المعلن عنه:
أولا، أن إيران وإسرائيل وصلتا بعد مواجهات مدمرة بينهما لمدة أسبوع كامل إلى نوع من “توازن الألم”، بحيث أن التفوق العسكري الإسرائيلي منح إسرائيل القدرة على بسط سيطرتها الجوية، وبالتالي إلحاق أضرار ساحقة بإيران. لكن السيطرة الجوية الإسرائيلية بالطائرات الشبحية مثل F16 وF35 لم يمنع إيران من إلحاق الأذى وإيلام إسرائيل كذلك، والدليل على ذلك أن الصواريخ الباليستية الإيرانية الفرط صوتية ألحقت أضرارا مؤكدة بمواقع حيوية في كيان إسرائيل. “توازن الألم” في الأزمات يتحقق حين يصبح كل طرف مصدر ألم أكيد للطرف الثاني، بصرف النظر عن التفاوت بينهما في القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية. كما أن تحقق وضعية توازن الألم يفتح الباب أمام تحولها؛ إما في اتجاه التسوية أو نحو مزيد من التصعيد.

التطور الثاني تمثل في الهجوم الأمريكي على مواقع نووية إيرانية ليلة 22 يونيو 2025، والتي لم تكن بالقوة التدميرية المتوقعة، لكنها كانت مؤلمة لإيران بكل تأكيد، وإنذارا لها عما يمكن أن يلحقها لو أرادت أمريكا بالفعل تدمير برنامجها كاملا.

تبدو الضربة محسوبة، هدفها الضغط على إيران من أجل وقف الحرب والعودة إلى المفاوضات. ولهذا تتحدث وسائل إعلام دولية عن تنسيق مسبق، حيث أبلغت أمريكا إيران مسبقا بالهجوم، والدليل على ذلك نقل كميات اليورانيوم المخصب من موقع “فوردو” إلى مواقع نووية أخرى لم يعلن عنها. إذ تملك إيران نحو 21 موقعا نوويا معلنا، منتشرا في أرجاء البلاد، كما قد يكون لديها مواقع سرّية نقلت إليها تلك الكميات، التي تقدر بأزيد من 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب حسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

لقد مثّل الهجوم الأمريكي فرصة حوّلت الحرب من مواجهة إيرانية إسرائيلية فقط إلى مواجهة إيرانية أمريكية كذلك، وهي فرصة مهّدت الطريق نحو اتفاق وقف إطلاق النار.

تمثّل التطور الثالث في الرد الإيراني على الهجوم الأمريكي باستهداف القاعدة العسكرية الأمريكية “العديد” بدولة قطر. من المؤكد أن الهجوم الإيراني يشكل اعتداء على السيادة القطرية، ويعني ذلك توسيعا للحرب نحو الخليج، إذ يفترض أن تطالب قطر بحق الرد، وهو الحق الذي ستكون مدعومة فيه من دول الخليج وأمريكا على الأقل، لكن المفاجأة أنها اختارت تحويل الهجوم الإيراني بدوره إلى فرصة ثانية من أجل إيقاف الحرب. وهو ما حصل بالفعل.

لقد أتى الإعلان الأمريكي عن وقف إطلاق النار مباشرة بعد الهجوم الصاروخي الإيراني على قواعد عسكرية أمريكية في قطر والعراق، وهو هجوم رمزي كبير، لكنه محسوب ومحدود، ويبدو أنه جرى بتنسيق مسبق مع قطر، بدليل أنه في الوقت الذي كان يفترض أن تطالب قطر بحق الرد على الاعتداء الإيراني، لأنه اعتداء صريح على سيادتها، فاجأت العالم بأنها تريد أن يكون الهجوم المذكور على قاعدة “العديد” فوق أراضيها فرصة لوقف الحرب. وهو الموقف الذي أكده ترامب بعد ذلك مباشرة، معلنا وقف إطلاق النار بين الطرفين، ومشيدا بالدور القطري.

من المؤكد أن قطر قد تصرفت بذكاء من أجل إيقاف الحرب، مستفيدة في ذلك من علاقاتها الجيدة بأمريكا وإيران، وفي لحظة كان يتوقع أن يكون الرد الإيراني نقطة التحول نحو حرب إقليمية شاملة، وهو سيناريو مخيف ومرعب. لكن الملاحظ كذلك أن إيران انصاعت لمطالب قطر، المدعومة أمريكيا، فأدى ذلك إلى وقف الحرب ومنع اتساعها المدمر نحو منطقة الخليج. علما أن إسرائيل حاولت نسف الاتفاق، بعد تعرضها لهجوم صاروخي، لولا الضغط الأمريكي.

لقد أثبتت السياسة القطرية أنها الأكثر فعالية مقارنة بسياسة الإمارات مثلا، التي لم تنجح في توظيف علاقتها بإسرائيل لمنع العدوان على إيران أو إيقاف الحرب عليها طيلة 12 يوما. بينما تمتنع إسرائيل بشكل منهجي عن الاستجابة لأي من مطالب المطبعين معها مثل الإمارات، وهي مفارقة تستدعي من مؤيدي التطبيع التفكير مليا في الوضع، إلا إذا كانوا مع اتساع الحرب ويشجعون إسرائيل على ذلك من خلف الكواليس.

غير أن وقف إطلاق النار لا يعني وقف الحرب، فالإعلان من جانب ترامب ما هو إلا خطوة لاحتواء التصعيد، دون شروط مسبقة، من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات. فهو إذن تعبير عن نقطة توازن دقيق بين أربع قوى على الأقل: إيران وأمريكا وإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي. لذلك فالحديث عن “اتفاق وقف إطلاق النار” لا يعني التوصل إلى اتفاق سياسي مع إيران حول القضايا الخلافية التي أدت إلى اندلاع الحرب، وهي تقييد البرنامجين النووي والصاروخي لإيران، وتقييد دورها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.

فالإعلان في جوهره إجراء تنفيذي لوقف العمليات العسكرية من أجل العودة إلى المسار السياسي فقط، وهو مسار يتطلب مفاوضات مطولة في الغالب، من أجل بناء توافقات جديدة بين إيران والقوى الإقليمية الأخرى في المنطقة، على رأسها إسرائيل والسعودية.

نحو توازن قوى جديد

لم يكشف إعلان وقف الحرب عن أي اتفاق محدد حتى الآن. ما هو مؤكد أن القوى الأساسية في الصراع تجنبت سيناريو اتساع الحرب فقط، قبل الذهاب إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى.

منهجيا، لا يمكن الحديث عن أي توازنات جديدة قبل أن تكتمل الحرب، والتي تعد المفاوضات جزءا منها، والعكس الصحيح. فما الحرب سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى. لكن يمكن البناء مؤقتا على النتائج الملموسة والموضوعية لهذه الحرب قصد تحديد الملامح العامة لتوازن القوى الجديد، ويمكن المجازفة من الآن بالقول إن إسرائيل لم تحقق انتصارا حاسما، كما أن إيران لم تنهزم، بينما تظل أمريكا القوة الرئيسية الماسكة بخيوط اللعبة.

موضوعيا، تلقت إيران ضربات عنيفة ومدمرة، بحيث ظهرت عارية تماما أمام التكنولوجيا العسكرية الغربية، إذ تبين أنها بدون أنظمة فعالة للدفاع الجوي رغم الحديث الإعلامي المتكرر حول توفرها على نظام S300 ونظام S400 الروسي.

وبفعل هشاشة نظامها للدفاع الجوي فقد فقدت سريعا سيطرتها على أجوائها، وهو تعبير عن فشل ذريع بدون شك.

كما أكدت هذه الحرب أن إيران مخترقة أمنيا على أعلى المستويات، بحيث تم الوصول بسهولة إلى قادتها العسكريين من الصف الأول وتصفيتهم، كما تم قتل عدد من علمائها النوويين، وذلك منذ الضربة الأولى صبيحة 13 يونيو الماضي. قبل أن يتبيّن أن جهاز الموساد الإسرائيلي يهاجم إيران بواسطة الطائرات المسيّرة من داخل العاصمة طهران وفوق الأراضي الإيرانية، ولديه شبكة واسعة من المتعاونين والجواسيس، وهي معطيات تكشف عن ضعف فادح في النظام الأمني الإيراني.

لكن رغم ذلك، لم تفقد إيران برنامجها النووي كاملا، رغم الهجوم الأمريكي العنيف على مواقع نووية أساسية في نطنز وأصفهان وفوردو، إذ تتحدث تقييمات استخباراتية أمريكية أن الخسائر التي ألحقتها الضربة الأمريكية بتلك المواقع قابلة للإصلاح خلال بضعة أشهر.

من المرجح في هذا السياق أن الخوف من التسرب الإشعاعي وآثاره المدمرة على البيئة والإنسان في إيران أو في دول الخليج كان حاسما في منع تدمير البرنامج كاملا. وربما لأن أمريكا لا تريد إضعاف إيران تماما لإخراجها من معادلة التوازن الإقليمي. ولذلك فقد هاجمت البرنامج النووي من أجل التفاوض لا التدمير.

بالمقابل، أثبت خيار إيران بالاستثمار في برنامج صاروخي باليستي نوعي جدواه وفعاليته في هذه الحرب، إذ حقق لها توازن الردع نوعا ما، واستعادت بواسطته بعض هيبتها وكرامتها، ويتوقع أن تطوره أكثر في السنوات المقبلة، في ضوء خلاصاتها حول نقط ضعف وقوة أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي.

وإذا كانت إسرائيل قد سعت إلى إضعاف النظام الإيراني، وتحريض معارضيه على الإطاحة به في انتفاضة شعبية أو انقلاب عسكري أو غيره، فإن هذه الحرب أثبتت أن النظام متجذر نوعا ما وسط شعبه، ويبدو أنه يحظى بتأييد واسع.

في حين أثبتت المعارضة الإيرانية أنها عقلانية ووطنية، إذ رفضت الانخراط في استراتيجية أمريكا/نتنياهو لتأجيج الفوضى من أجل الإطاحة بالنظام، بل عبّر عدد من رموز المعارضة في الداخل والخارج عن انحيازها إلى وطنها إيران، ما جعلها في صف واحد مع النظام القائم هناك في مواجهة العدوان الصهيوني/ الأمريكي.

أما بخصوص الكيان الإسرائيلي، فقد أكدت هذه الحرب نقطتي قوة لديه:
الأولى، أن إسرائيل تتمتع بالتفوق العسكري النوعي في المنطقة، تجعل منها قوة عسكرية وأمنية صلبة، تمتلك أسلحة مدمرة وتكنولوجيا متقدمة، كما يتمتع بالفعالية والمهارة والقدرة على الفتك بخصومها، وحتى الغدر بهم. ولعل التفوق العسكري النوعي منحة أمريكية غربية وليس صناعة ذاتية إسرائيلية فقط.

أما نقطة القوة الثانية، فهي أن إسرائيل تتمتع بتفوق استخباراتي قوي، يمنحها القدرة على الاختراق والسيطرة على خصومها، والدليل قدراتها النوعية في اختراق النظام الإيراني على أعلى المستويات، وقبل ذلك قدرتها على الوصول إلى قادة حماس وحزب الله.

لكن هذه الحرب أثبتت، بالمقابل، أن إسرائيل محمية أمريكية وغربية، لا يمكنها أن تشن حربا وتستمر فيها لمدة أطول بدون دعم وإسناد أمريكي مباشر وفعلي. لقد بدأت بالحرب على إيران، ثم أياما قليلة بعد ذلك استنجدت بالحليف الأمريكي، الذي تدخل في النهاية لوقف الحرب وليس لتدمير إيران ودفعها للاستسلام.

كما أثبتت هذه الحرب أن إسرائيل بدون عمق استراتيجي، حيث ضيق المساحة الجغرافية وتركز السكان في مدن قليلة (تل أبيب، حيفا..)، يجعلها تحت ضغط رهيب جراء القصف الصاروخي الإيراني النوعي، خصوصا بعدما استطاعت الصواريخ فرط الصوتية الإيرانية تجاوز أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية.

ما الذي قد تفضي إليه هذه الملاحظات الأولية على صعيد توازن القوى؟

تدرك إسرائيل اليوم أن تفوقها العسكري النوعي لا يحميها من صواريخ متقدمة ومدمرة، وأن إيران قادرة على أن تحدث توازنا في الردع معها. كما أن صمود إيران طيلة أيام الحرب، مستندة إلى القوة التدميرية لبرنامجها الصاروخي، وإفلات برنامجها النووي من التدمير الشامل، يجعلها في موقع يسمح لها بالتفاوض من موقع من لم ينهزم.

وعليه، قد تتحول المواجهة نحو الاعتماد على وسائل أخرى، ما يعني أن أهداف الطرفين اتجاه بعضهما البعض قد تظل كما هي دون تغيير، إذ كلاهما ينظر للآخر كتهديد وجودي، لكن وسائل المواجهة في المرحلة المقبلة قد تختلف. والاحتفاظ بالأهداف نفسها مع تغيير وسائل المواجهة بين الطرفين، يسمح بالحديث عن فشل إسرائيلي في هذه الجولة، ما دامت هي من بدأت العدوان، كما تسمح بالقول إن الحرب لم تنته بعد، وإنما ستستمر بوسائل أخرى، قبل أن تشتعل مرة أخرى.

من المرجح في هذا السياق أن تضغط إسرائيل عبر أمريكا من أجل انتزاع مكاسب سياسية على طاولة المفاوضات لم تحققها في ساحة الحرب، وأساسا فرض قيود صارمة على البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي، وتقييد الدعم الإيراني لحلفائه غير الدولتيين مثل حزب الله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن، وهي أهداف تشترك فيها إسرائيل مع دول الخليج وأمريكا.

لكن يبدو أن إيران على دراية بهذه الأهداف، لذلك أعلنت مسبقا استحالة تنازلها عن حقوقها في التخصيب النووي، وعن برنامجها الصاروخي. ومن أجل ذلك، صوّت البرلمان الإيراني مباشرة بعد إعلان وقف الحرب على تعليق التعاون الإيراني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتهمها إيران بالتواطؤ مع إسرائيل في استهداف برنامجها النووي.

وعموما، يجب انتظار نتائج المفاوضات السياسية المرتقبة بين إيران وأمريكا، والتي باتت مطلبا خليجيا كذلك، من أجل فهم موضوعي ودقيق لنتائج الحرب ومخرجاتها.

لكن من الواضح أن أمريكا لا تريد تدمير البرنامج النووي الإيراني، ولا تغيير النظام السياسي في إيران بالقوة كما فعلت في العراق وأفغانستان سنة 2003، لكنها تسعى حثيثا نحو دفع إيران إلى تغيير سياساتها في المنطقة، وهو مسعى تطالب به الدولة الخليجية وإسرائيل كذلك، لكن طالما رفضته إيران ويتوقع أن لا تقبل به في المفاوضات المقبلة. لكن من يدري، ربما تكون الصفقات المعروضة فوق طاولة التفاوض مغرية لإيران ولغيرها.