story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حربٌ قذرة

ص ص

قفزت إسرائيل خطوة كبيرة بمهاجمة إيران. ودخلت أمريكا على الخط في محاولة لفرض “الإذعان الكامل” على كل منطقة الشرق الأوسط. القصة صارت تتجاوز إيران الآن.

ليلة هجوم إسرائيل على إيران (13 يونيو 2025)، المستشار الألماني فريدريش ميرتس أخذته الحماسة ( وعُقَدُ التاريخ المترسّبة في النفوس منذ اقتَرَفَ أجدادُه النازيون الهولوكوست في حقّ اليهود) ليشيد بإسرائيل لأنها “تقوم بالعمل القذر نيابة عن الغرب”، قبل أن تنغمس أمريكا لتنال نصيبها من “القذارة” بقصف منشآت إيران ( ليلة 22 يونيو). تصريح ميرتس فريد، فمِنْ حيث أراد الإشادة بإرهاب دولة الاحتلال، أصاب الحقيقة. هذه هي وظيفة إسرائيل، بكل اختصار ودقّة.

إيران تردّ بإمكاناتها، وتخوض حربا لأجل “كرامتها” عقب اغتيال رئيس أركان الجيش وأعضاء في هيئة الأركان، وعلماء ذرة، وضرب منشآت نووية وعسكرية، ومناطق سكنية. وككل مرة، لن تعْدَم دولة الاحتلال وأمريكا من يبرّر إجرامهما. في الليلة التي كانت إسرائيل تشنّ عدوانها، وبدل إدانة الهجوم، ردّدت دول غربية الكلام البئيس عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وهذا الحق يبدو حصرياً لمرتكبي الإبادة في غزة.

يظهر أن نتنياهو خطى خطوته بعيدا عن الحافّة مع “خط ائتمان” بأن تمدّ واشنطن ( وحلفاؤها) يدها لانتشاله، كما تفعل دوماً، وقد فعلها ترامب. طهران ردّت طيلة 9 أيام من المواجهة بتصاعدٍ ملحوظ، رافضةً استتباب قواعد اشتباك جديدة. وحتى ليلة الأحد (22 يونيو) كانت تمدّ يداً للتفاوض لإبعاد خطر مواجهة مباشرة مع واشنطن. لكنّ يبدو أن خطّة القصف الأميركية كانت جاهزة من البداية. ودعْكَ من كل تلك الأكاذيب عن نوايا “السلام عبر الدبلوماسية”. ردّد نتنياهو بعد القصف الأميركي لمنشآت إيران النووية كلام ترامب المكرور عن أن “القوة تأتي بالسلام”. القوة إسرائيلياً تعني الإرهاب.

أمريكا “سيّدة الاحتيال” لإصباغ الحروب “أخلاقية” ليس فيها من الأخلاق شيء. الحرب على العراق شُنّت بناءً على كِذبة بَلْقَاء: صدام حسين يملك أسلحة الدمار الشامل. الجنرال كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في إدارة جورج بوش الإبن، قاد، رفقة السمسار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، حملة عريضة طويلة للترويج للأكاذيب تمهيدا لغزو العراق.

باول خطب في مجلس الأمن لتبرير الحرب: “كل ما أدلي به اليوم من بيانات مدعوم بمصادر موثوقة (..) ما نقدمه لكم هو حقائق واستنتاجات تستند إلى معلومات استخباراتية موثوقة تؤكد امتلاك العراق أسلحة دمار شامل” ( حرفياً). وباقي حفلة الكذب عن أسلحة الدمار الشامل معروفة: لم يجدوا شيئاً، لأنه لم يكن هناك شيءٌ، بل كانوا يعلمون أنه لا يوجد شيء. والمهمة الحقيقية: تدمير العراق.

يكرّرون الأمر ذاته مع إيران. منذ 2012 يتحدث نتنياهو عن “أشهر وأسابيع” تفصل طهران عن إنتاج قنبلة نووية. مرت سنوات و”لم يحدث الأمر”. وفي 2025 كثّفوا الحديث عن اقترابها من السلاح النووي، تمهيدا للعدوان الإسرائيلي، وتالياً للانقضاض الأمريكي. للمفارقة، إسرائيل دولة نووية، ومسؤولون فيها فكروا في استخدامه. وزير التراث الإسرائيلي (أي تراث!!!؟)، عميحاي إلياهو، دعا إلى قصف غزة بقنبلة نووي. وطبعاً، لن يرى الغربُ خطرا في وجود السلاح النووي بين يدي العنصريين المتطرفين.

تبدو الحرب الحالية على طهران تحصيل حاصل إذا وُضعت في سياق عام، ونُظر إليها بإزاء تطورات العقد الأخير. قبل 10 سنوات ( 2 أبريل 2015) وقّعت إيران اتفاقا نوويا مع الترويكا الأوروبية وروسيا والصين، وأمريكا ( ولاية باراك أوباما). يومها، رفضت إسرائيل “اتفاق لوزان النووي”. لم يتوّقف نتنياهو عن مهاجمته. ثم وصل ترامب (2017 ـ2021) إلى البيت الأبيض، فلم يتأخر في التماهي مع نتنياهو في اعتبار الاتفاق النووي “صفقة فاشلة”، قبل أن يقرّر في 2018 الانسحاب منه، مُعيداً فرض عقوبات مُرهقة على طهران.

في العام ذاته (2018) أعلنت إسرائيل سرقة البرنامج النووي، وعرضت “أجزاء منه” (وفي البال كِذبات باول)، وبعد عامين ( في 27 نونبر 2020) اغتالت العالم محسن فخري زاده، أب المشروع النووي الإيراني، في عملية معقّدة، كشفت حينها عن اختراق استخباراتي واسع لجبهة إيران الداخلية.

ولاية بايدن (2021ـ 2025) لم تُعِد الاتفاق النووي، قبل أن يباغت هجوم حماس ( 07 أكتوبر 2023) الجميع وينشئ واقعا جديدا. وفي 2024 حصلت مواجهتان مباشرتان “محدودتان” بين إيران وإسرائيل على هامش الحرب على غزة، في كلتيهما كانت المبادرةُ بالعدوان إسرائيليةً: عقب استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق ( 1 أبريل 2024)، وأيضا بعد اغتيال ضيف الرئيس الإيراني، رئيس حركة حماس إسماعيل هنية ( 31 يوليو 2024)، واغتيال حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت (27 شتنبر 2024). كانت المواجهتان جسَّ نبض في انتظار “الفرصة”.

شكلت عودة ترامب إلى الرئاسة (20 يناير 2025) الفرصة الإسرائيلية، وقد “سحبه” نتنياهو إلى “القذارة” ( بتعبير ميرتس) حين قرر أن يقصف المنشآت النووية في نطنز وفوردو وأصفهان. عاد الرئيس الجمهوري في ولايته الثانية في ظروف أكثرَ دراميةً من اللحظة التي قرر فيها الانسحاب من الاتفاق النووي، بعدما كانت خريطة المنطقة قد شهدت متغيّرات. كان العنوان الأبرز للواقع المستجد تضرّر استراتيجية “الدفاع المتقدّم” الإيرانية، بخسارتها تمركزات الحرس الثوري على حدود الأراضي المحتلة، و”تحييد” أذرعٍ فاعلة في المنطقة. كان انكفاء حزب الله الخسارة الأفدح بعد ضربات قاسية، تكثّفت في لحظتين شديدتيْ التأثير: هجمات البيجر (17 و18 شتنبر 2024)، واغتيال أمينه العام حسن نصر الله، وأمينه العام البديل هاشم صفي الدين (3 أكتوبر 2024). ثم تتالت الأحداث إلى لحظة سقوط النظام السوري (8 دجنبر 2024).

ويبدو الآن أن كل ذلك الكلام عن خلافات أميركية إسرائيلية بشأن الاستراتيجية الأفضل ضد إيران كانت مجرّد مناورة ضخمة. عمد الرئيس الأميركي إلى تقريب “الجَزَرة” في مائدة التفاوض مع طهران على سبيل الإلهاء، فيما كانت “العصا” الإسرائيلية تتأهّب للضرب، على أن يُكمل الجيش الأمريكي المهمة بقاذفات (بي 2). نتنياهو شكر ترامب على “أدائه” الذي وفّر عنصر المفاجأة ليلة 13 يونيو. وبعد أيام قليلة من العدوان الإسرائيلي على طهران تموقعت واشنطن بسرعة في قلب الحرب. تحدث الرئيس الأمريكي عن “سيطرتنا على الأجواء” وعن “نعرف أين يختبئ خامنئي، لكننا لن نقتله الآن”. ويبدو أنه استبق ذروة الانخراط المباشر حين غرّد مثل متحدث عسكري مطالباً بإخلاء طهران. بعد الهجوم الأمريكي، شكرا ترامب نتنياهو “الذي عملنا معه كفريق”.

اشتغلت آلة إعلامية أمريكية جبّارة طيلة أيام الحرب، وقبلها، لإغراق المشهد وإرباكه بالتسريبات المدروسة بعناية، وساهمت في المناورة وحفلة الأكاذيب عواصم أوروبية، فتحوّل الحديث من وضع واشنطن مسافةً مع الهجوم الإسرائيلي، إلى تفصيلةِ “متى سيتخذ ترامب قرار قصف مفاعلات إيران النووية”، وجنرالات الجيش الذين يطلعونه على كيفية اشتغال القنابل الخارقة للتحصينات، ثم تسريب احتمال استعمال السلاح النووي التكتيكي. أرجأ ترامب قرارَه بشأن إيران “أسبوعين”، وكانت المهلة “مهدّئاً” و”تلهيةً” قبل أن يشنّ هجومٍا خاطفا، يُكملُ ما بدأه قبل 7 سنوات حين انسحب من اتفاق لوزان.

إيران المُحاصرة منذ عقود، والمنهك اقتصادها، دافعت عن نفسها طيلة أيام العدوان الإسرائيلي، وفي مواجهة حرب تهويل أمريكية لا تقلّ تفجّراً، قبل أن يقصف ترامب منشآتها النووية. رفضت طهران “الإذعان الكامل”، وأبقت إسرائيل تحت النار، وضربت منشآت استراتيجية، وكشفت كم أن دولة الاحتلال ضعيفةٌ بنفسها، مستقويةٌ بأمريكا وبالتواطؤ الغربي.

حسابات كل الأطراف تعقّدت بعد القصف الأميركي. وسينتظر العالم شكل ومستوى ردّ فعل إيران. استخدمت أمريكا/ ترامب قنابل تدخل الخدمة الفعلية لأول مرة في التاريخ، بمفاعيل الهجوم النووي على اليابان. لم يتأخر ترامب في الحديث عن أنه “حان وقت السلام وإنهاء الحرب”، ولا يقصد شيئا غير استسلام إيران على الطريقة اليابانية. ألقت القاذفات الأمريكية، على ما يبدو، 30 ألف طن من المتفجرات، ليُخبر ترامب أن إسرائيل “صارت أكثر أمانا”. والحقيقة أن قصف إيران يتجاوز ضمان أمن إسرائيل، إلى توقيع أمريكي لـ”صكّ إذعان” كل المنطقة، لتدخل، بالإرهاب والبلطجة وانتهاك القانون الدولي، الزمنَ الإسرائيلي.

قصارى القول

بقصف منشآت إيران يكون ترامب قد “تنازل” عن حلمه “المَرَضي” في الحصول على جائزة نوبل للسلام، ونقض واحداً من أهم وعوده الانتخابية للأمريكيين. مرة أخرى يتأكد أن إسرائيل “ولاية أمريكية” أو “قاعدة عسكرية متقدمة” على أراضٍ عربية. وفي حالاتٍ تتحوّل تل أبيب عاصمة القرار الأمريكي، ضمن علاقة ملتبسة، وفاضحة.

قصف إيران يعني كل دول المنطقة. لا أحد يجب أن يسْعد بالذي جرى. ومطلب ترامب للإذعان يعني الجميع بلا استثناء. لا حليف لأمريكا إلا إسرائيل، ولا صديق إلا نتنياهو، ومن تبقوا يصلحُ وصفهم بأي شيء، إلا أن يحملوا معنى الحليف والصديق.