جيل Z في أمريكا: هوية سائلة في زمن التحولات الكبرى

منذ ثمانينيات القرن الماضي، شهد المجتمع الأمريكي تحولات سوسيولوجية عميقة: تسارع وتيرة التمدن، وتحولات الهجرة والتعليم، وصعود التكنولوجيا الرقمية كقوة دافعة للتيارات الاجتماعية والثقافية. هذه العوامل مجتمعة ساهمت في إحداث تغييرات عميقة، أعادت تشكيل البنى العميقة للهوية والانتماء، لا سيما لدى الجيل الذي وُلد مع مطلع الألفية الجديدة: جيل Z. إنه جيل يعيش في مفترق طرق؛ تتقاطع فيه العولمة مع الفردانية، وتنهار فيه البنى التقليدية لصالح تشكيلات جديدة للهويات السياسة والدينية والاجتماعية. في هذا المقال، نحاول تحليل ملامح هذا الجيل في السياق الأمريكي، وفهم كيف أثرت التحولات السوسيولوجية على وعيه، خياراته، وأشكال تعبيره المختلفة.
هوية متعددة وعابرة للحدود: الانتماء بوصفه خيارا
جيل Z هو ابن العولمة والهجرات المتداخلة والمدن الكوزموبوليتية. لقد نشأ كثير من شبابه في بيئات متعددة الثقافات، يتحدثون لغتين أو أكثر، ويستهلكون منتجات ثقافية من كوريا الجنوبية والمكسيك وأوروبا في الوقت ذاته. لا يرى الفرد منهم نفسه محصورًا في هوية قومية أو عرقية صلبة، بل يعيش هوية هجينة، مفتوحة، وسائلة:
“أنا أمريكي من أصول مكسيكية، أتابع الكيبوب، أؤيد حقوق الفلسطينيين، وأؤمن بالمناخ كقضية إنسانية”.
هذه السيولة قد ينتج عنها تشتت في الرؤى والاختيارات، ولكنها في نفس الوقت تعبر عن مرونة معرفية وشعورية تتيح للفرد أن يعيد تشكيل انتماءاته وفقًا لقيمه وتجربته الشخصية.
الانفصال عن المجتمعات التقليدية: من العائلة إلى المنتدى
التمدن والتفكك العائلي جعلا من الروابط التقليدية مثل العائلة والدين والجماعة العرقية مرجعية أقل حضورًا في تشكيل الهوية. وبدلًا من التكوين الاجتماعي الوراثي، يبحث جيل Z عن مجتمعات افتراضية توفر له الانتماء: على Reddit، Discord، أو ضمن فاندومات ثقافية (مجتمع المعجبين). هنا تُبنى الهوية من خلال الاختيار الفردي الذي قد يتجاوز روابط الدم أو مؤسسات الدولة. هذا التحول يعكس نموذجًا جديدًا من “القبائل الرقمية” حيث قد يكون الرابط الأساسي بين الأفراد فبها هو الاهتمام المشترك بديلا عن الجغرافيا أو الأصل العائلي.
الوعي الاجتماعي المبكر: الطفولة تحت وابل الأسئلة الكبرى
جيل Z ليس فقط جيل التكنولوجيا، بل أيضًا جيل الاحتجاجات. في المدن الكبرى، وتحت ضغط الإعلام الرقمي المستمر، يتعرض الفرد منذ سنوات مراهقته الأولى لأسئلة كبرى عن العدالة، والعنصرية، وعدم المساواة، وتغير المناخ، والهوية الجندرية.
لقد خلقت العولمة فجوة ضخمة في توزيع الثروات، وزادت من الشعور بالاغتراب، ما دفع هذا الجيل لتبني قضايا اجتماعية بطريقة شخصية اكثر منها مؤسساتية او نظامية.
في هذا السياق، أصبحت السياسة في هذا الأفق تتجاوز المعنى التقليدي، إلى النظر اليها بوصفها موقف حياة، او مسألة شخصية تعكس القيم اليومية للفرد: خياراته في الاستهلاك، طريقة تعبيره عن ذاته، وحتى نوعية الوظائف التي يسعى لها.
فردانية الحداثة وقلق الهوية: الحرية التي تُنهك
رغم ما يبدو من تحرر وانفتاح، إلا أن جيل Z يواجه قلقًا وجوديًا متجددًا. الحداثة السائلة فتّتت الأطر الجمعية التي كانت توفر المعنى، فحلّت محلها الفردانية المفرطة. الفرد اليوم حر في أن يكون “ما يشاء”، لكن هذه الحرية تحولت إلى عبء نفسي.
ونتيجة ذلك ارتفعت معدلات القلق، والاكتئاب، والإرهاق النفسي بين الشباب. فـ”أنا أقرر من أكون” ليست فقط عبارة تمكينية، بل قد تكون بوابة إلى قلق لا نهائي من المعنى، في ظل غياب مرجعيات ثابتة.
روحانية بلا دين: القيم تتجاوز المؤسسات
تُظهر استطلاعات الرأي في أمريكا أن جيل Z هو الجيل الأكثر انتماءً إلى فئة “اللا منتمين دينيًا” (Nones). لكن هذا لا يعني أنه جيل بلا روحانية. بل هو جيل يبحث عن المعنى خارج المؤسسات الدينية التقليدية، عبر ممارسات تأملية، وبيئية، وفنية أو حتى عبر الحركات الاجتماعية الجديدة.
غالبًا لا يحمل هذا التحول طابعًا عقائديًا منظّمًا، بل يعكس تحولًا في أنماط التفضيل القيمي أكثر منه قطيعة فكرية مع الدين. إنها “روحانية فردية” غير مُمأسسة، تقاوم الرقابة، وتسعى إلى تجربة روحية شخصية.
رغم القدرات والطاقات التي يتوفر عليها جيل Z، جيل Z غالبًا يشعر بـ”الحرية في تشكيل ذاته”، لكن ذلك يرافقه قلق، توتر، شعور بالضياع. يضاف إلى ذلك ضغوط نفسية كبيرة ناتجة عن الانعزالية والإقصاء والقمع. وهو ما يفسر تصاعد قضايا الصحة النفسية لدى الجيل.
السياسة كحياة: رفض السلطة المركزية وتمكين الذات
تُفكك السياسة لدى جيل Z بوصفها تجربة معيشية يومية، وليس مجرد تصويت أو انتماء حزبي. إنها سياسة ما بعد حداثية، تقوم على رفض السلطة المرجعية المطلقة، والتمكين الذاتي (Agency)، وفهم الدولة بوصفها “خادمة للمواطن”.
الشباب هنا يمارسون الاحتجاج الرقمي، وإنتاج المحتوى، وقد يقررون احداث تغيير من خلال إعادة امتلاك reappropriating الفضاء العمومي. المثال الأبرز هو حركات مثل “Black Lives Matter” و”Fridays for Future”، حيث يمتزج العمل السياسي بالتعبير الثقافي والهووي.
الاحتواء أو الهجوم: ردود فعل المجتمع الأمريكي
أمام هذه التحولات، ينقسم المجتمع الأمريكي. هناك من يرى في هذا الجيل خطرًا على القيم التقليدية، ويقود حملة “استعادة القيم” كما في التيار الشعبوي المحافظ (MAGA)، مستعينًا بخطابات دينية وقومية لإعادة بناء “الرأسمال الاجتماعي الضائع”، كما يصفه روبرت بوتنام من خلال أطروحة “لنجعل امريكا عظيمة مجدّداً”. وهذه السردية تفشل في ان تجيب عن سؤال اية امريكا عظيمة نريد استعادتها.
وفي المقابل، هناك من يسعى إلى احتواء طاقة الجيل الشاب. ثمة احزاب ومنظمات حولت مؤسساتها إلى بيئة حاضنة للهويات الجديدة، من خلال احترام حرية الفرد وتجربته الخاصة. هنا، لا يُنظر إلى الهوية كمشكلة، وانما بوصفها فرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد.
هوية قيد التشكّل أم جيل في مفترق طرق؟
جيل Z في أمريكا لا يمكن اختزاله في صور نمطية سطحية. إنه جي
عز الدين عزيماني