“جيل Z”: “ثورة ثقافية” لانتقال سوسيولوجي سريع

في فجر الألفية الثالثة، بدأ المغرب يعيش انتقالا ديمغرافيا سريعا. عنوانه الأبرز: “اضطرابات انتقالية”. عرف المغرب خلال 30 سنة الماضية، على المستوى الديمغرافي، شكل الأسرة، العلاقات العمودية، تصور السلطة… ما تطلب أزيد من قرن ونصف في دول أوربية، التي عرفت انتقالا ديمغرافيا بطيئ. إمانويل طود ويوسف كورباج، في دراسة مخصصة للانتقال الديمغرافي في المغرب، يَخلصان إلى الخلاصة التالية: “التحول، الذي حدث بوتيرة سريعة للغاية في المغرب، يولد حالة من التفكك أو الاضطرابات الانتقالية على المدى القصير، والتي يمكن أن تترجم إلى اضطرابات اجتماعية واحتجاجات.
قياس التوترات
لتلخيص معادلة التوترات الاجتماعية التي خطها طود وكورباج، فإن الثورة الثقافية تلعب دورا حاسما للمرور إلى الإصلاح ومجتمع أكثر مساواة. تُصاغ هذه المعادلة، لتعكس أن التوتر يحدث عندما تكون الطموحات أكبر من الفرص المتاحة، وأن السرعة العالية للتحول تضاعف من هذا التوتر.

تعبّر هذه المعادلة على أن التوتر الاجتماعي والاحتجاج (T) هو نتيجة لتفاعل عاملَين رئيسيَين. العامل الأول هو فجوة الإحباط، التي تتكون عندما تتجاوز طموحات وتوقعات الشباب المتعلم (A)، بشكل كبير، الفرص الاقتصادية والسياسية المتاحة (O). فكلما زاد تعليم الشباب وارتفعت سقف تطلعاته دون أن يجد وظائف أو حريات تتناسب مع مستواه، اتسعت هذه الفجوة. العامل الثاني هو سرعة الانتقال الديموغرافي (V)، حيث أن وتيرة التغيير السريعة في المغرب (خلال عقود قليلة( ضاعف هذا التوتر الأساسي، لأن الأنظمة الاقتصادية والسياسية، لا تتمكن من التكيف والإصلاح، بنفس سرعة تدفق الأجيال الجديدة المتعلمة والمُطالِبة، مما يجعل المجتمع مهيئاً بشكل هيكلي لظهور موجات احتجاجية.
تجد معادلة التوتر الاجتماعي والاحتجاج (T)، التي وضعها طود وكورباج، صدى ملموساً لها في الأرقام الرسمية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط (HCP). فالـ “ثورة الثقافية” التي تحدث عنها المؤلفان تتجسد في ارتفاع سقف الطموحات (O) لدى الشباب المتعلم. وفي المقابل، تتسع فجوة الإحباط (A – O) بفعل البطالة الهيكلية، حيث تشير آخر الأرقام لعام 2024 إلى أن معدل بطالة الشباب (15-24 سنة) يقف عند مستوى مرتفع يناهز 36.7%، بينما تبلغ البطالة بين حاملي الشهادات حوالي 19.6% . هذا التفاوت الصارخ بين المؤهلات والفرص المتاحة يُشكل الوقود الأساسي للتوترات الاجتماعية. وفي ذات الوقت، يُبرهن عنصر السرعة (V) في المعادلة على عمق التحول؛ فقد انخفض معدل الخصوبة الإجمالي إلى 1.97 طفل لكل امرأة (حسب إحصاء 2024)، متجاوزاً بذلك مستوى إحلال الأجيال Replacement-Level Fertility (2.1) في فترة زمنية قصيرة جداً مقارنة بدول أخرى، شهدت انتقالات ديمغرافية. هذه السرعة القياسية في الانتقال الديموغرافي، تضاعف الضغط على الأنظمة الاقتصادية والسياسية لتتكيف وتستوعب جيل “Z” المتعلم والمُحتج، وبالتالي فموجات الاحتجاجات ستتصاعد، ويمكن أن تتحول إلى احتجاجات سياسية، إذا تصاعد استعمال “العنف المشروع” دون إجابات سياسية عملية، تستجيب لمطالب هذه الفئة من المجتمع.
رغم أن الأرقام الرسمية للمندوبية السامية للتخطيط، تقدم بشكل عام، وبمنهجية يمكن الاختلاف عن تحديداتها؛ مثل تعريف الساكنة النشيطة، ولا تأخذ بعين الاعتبار التحولات التي يمكن أن تحدث في أنظمة الشغل والنشاط، كالانتقال من عقد “أنابيك” إلى البطالة… فإن مقارنة هذه الأرقام بين سنوات 2020 و2025 تظهر ارتفاع فجوة الإحباط، في صفوف “جيل Z” أساسا، وكذلك في صفوف حاملي الشهادات من الشباب.

المصدر: HCP
تظهر مقارنة معدل الخصوبة، كذلك من خلال الإحصائيات الرسمية، عن تحول حاسم في بنية الأسرة المغربية، فقد انتقل معدَّل الخصوبة من 2.2 – 2.3 طفل لكل امرأة سنة 2020 إلى 1.97 طفل لكل امرأة سنة 2024، وهو تراجع عن عتبة معدل تعويض الأجيال كما أشرت سابقا. ويشير هذا التحول إلى تباطؤ نمو السكان على المدى الطويل وتسارع شيخوخة الهرم السكاني (ارتفاع نسبة كبار السن مقابل انخفاض نسبة الأطفال)، وهي تحديات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية كبرى تتطلب سياسات عامة جديدة في مجالات التقاعد والرعاية الصحية وسوق العمل…
مأزق سياسي
منذ حركة 20 فبراير سنة 2011، بدأت تظهر حركات احتجاجية ترفع مطالب احتجاجية، وتأنى بنفسها عن المطلب السياسي. استراتيجية الفاعلين، هذه، في إبراز المطلب الاجتماعي، بدفع بالمشهد السياسي المغربي إلى مأزق، مأزق سياسي، وذلك أن صلب الفعل السياسي هو اجتماعي، وغالبية السياسات العمومية المبلورة في عمر الحكومات، يكون مضمونها اقتصادي واجتماعي. وبالتالي فالتماس بين السياسي والاجتماعي، غير مرئي، بل أنه في واقع الأمر، فصل تجريدي وليس حقيقيا.
تتميز الحركات الاحتجاجية، ذات الطابع الاجتماعي، بشكل عام، بقوة التعبئة واحتمال تحقيق بعض أهدافها الأساسية بشكل سريع. لكن في سياق الميدان الملاحظ (المغرب بعد حركة 20 فبراير) كان عملية التعبئة تتقوى بالنسبة للحركات الاحتجاجية، الحاملة للمطالب الاجتماعية، لكن هذه المطالب تتراجع، تتحول ويمكن أن تلغى لفائدة المطالب السياسية والحقوقية، خصوصا بعد استعمال “عنف الدولة”، وحصول اعتقالات ومتابعات قضائية.
بعد حركة 20 فبراير، انتقل منطق الفعل الاحتجاجي الدفع بالهويات الفردية وتشجيع الفرد، أكثر من الاعتماد على هويات تنهل من القيم الجماعية: مثل الإيمان الديني، الانخراط السياسي… وبدأ النشطاء يُعطون اهتماما إلى الكفاءات الفردية أكثر من الانتماءات الجماعية. لذلك، رأينا أن جميع الحراكات التي عرفها المغرب ما بعد حركة 20 فبراير، تنبذ السياسي، تشيطن الأحزاب، وتحاول أن تقود فعها الاحتجاجي، بشكل غير مسبوق، في تاريخ الحركات الاحتجاجية؛ ينهل من تحولات الفعل الاحتجاجي على المستوى العالمي.
تحولات الفعل الاحتجاجي، في احتجاجات GENZ212، أظهرت أيضا انسيابية في تعبئة الشباب. التنظيم، التعبئة واتخاذ القرار الاحتجاجي يمر في نصة واحدة، خادم على Discord ، يتم تحديد فيه الشكل الاحتجاجي، مكان الاحتجاج، والأهم اتخاذ القرار بشكل جماعي، وغير خاضع للكثير من الشكليات أو مساطر التنظيمات. فالشباب المنخرط في خادم Discord والذي تجاوز، إلى حدود 2 أكتوبر 2025، 150 ألف مخرطة ومنخرط، هو من يقرر في الخروج من عدمه، وكذلك مكان الاحتجاج وشكله. غياب تنظيم عمودي في مسألة اتخاذ القرار، وعدم إخضاعه لمنطق التوافق والتشارك بين أي جماعات مشكلة قبلا، يجعل من فعل GenZ212 يدخل في منطق مختلف عن منطق التنظيمات المُعارضة، التي تخضع قرار فعلها إلى التوافق السياسي، الذي يمر بمصافي إيديولوجية، سياسية، ونفسية في كثير من الأحيان، تُأخر الفعل وتُدخله إلى منطق “السياسي”.
على الرغم أن فعل “جيل Z” الاحتجاجي، مازال حديثا، وأن الملاحظة بمسافة، هي التي يمكن أن تكشف عن معنى هذا الفعل وطريقة تعبير الشباب، بإحباطاتهم، معناتهم وكذلك طموحهم في التغيير، وخلق زمن أكثر عدلا ومساواة، فإن الفعل الاحتجاجي الذي بدأ متصاعدا (خروج يومي(، له رُموزه الخاصة وآلياته المختلفة، التي ربما ستقطع مع جيل الاحتجاجات السابق، سواء في استراتيجيات الشارع، التصورات، آليات التفاوض، أو حتى التدرج في الانتقال المطلبي، بإبراز الحدود المختلقة بين السياسي والاجتماعي.