story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

“جيل Z”.. استطلاع يكشف تأرجح المغاربة بين اليأس والجمود والإصلاح والتغيير الجذري

ص ص

كشفت دراسة ميدانية أنجزتها مؤسسة H-in-Q في شكل استطلاع رأي، ونشرت مجلة “لسان المغرب” نتائجها الكاملة في عددها الأخير، مواقف المغاربة من دينامية احتجاج ما يعرف بـ“جيل Z” التي شهدها المغرب في أواخر شتنبر. وتبيّن من خلال نتائج هذه الدراسة أن حراك “جيل Z” تمتّع بدعم شعبي واسع طيلة فترة إنجاز الاستطلاع، يفوق في معدّله العام نسبة الخمسين في المئة.

كما كشفت النتائج عن تأثير واضح أنتجه الخطاب الملكي لافتتاح البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025، رغم أنه يم يتطرّق نهائيا إلى هذه الاحتجاجات.

مفعول الخطاب تجسّد في انخفاض نسبي في الدعم الشعبي للاحتجاجات، مقابل انخفاض (نسبي أيضا) في حدّة الرغبة في سقوط الحكومة وتعليق الأمل في التغيير على الشباب، كما ارتفعت نسبة القبول بفكرة انتظار الموعد القانوني للانتخابات للقيام بأي تغيير سياسي. فيما عادت المؤشرات إلى الاقتراب من مستوياتها السابقة للخطاب الملكي بعد مرور حوالي خمسة أيام.

كما أفرزت عملية تحليل (قام بها المشرف على الاستطلاع إدريس الفارسي) أجوبة المشاركين في هذا الاستطلاع الذي خضعت له عيّنة تمثيلية للمجتمع المغربي بين 5 و27 أكتوبر، خريطة المواقف والميولات السياسية للمغاربة، والتي تتأرجح من الولاء التام والحرص على استمرار الوضع السياسي القائم، إلى الرغبة في حدوث تغيير جذري، مرورا بالكتلتين الكبيرتين اللتين أفرزهما هذا الاستطلاع، وهما كتلة اليائسين من حدوث أي تطوّر أو إصلاح، والمتطلّعين لخطوات إصلاحية تدريجية.

الدراسة التي وجّهت للمستجوبين الذين يفوق مجموعهم 1900 مشارك، من بينهم 1919 “مجيب فعلي”، أسئلة تبدأ من الموقف من حراك شباب “جيل Z”، انتهت إلى نتيجتها الأبرز، وهي أن المجتمع المغربي لا ينقسم بوضوح إلى معسكري “مع أو ضد” فقط، بل يمكن التمييز في داخله بين سبعة أنماط من المواقف السياسية، تتجمع في أربعة أقطاب كبرى تساعد على قراءة المغرب كفسيفساء متجاورة لا ككتلة واحدة.

الأقطاب الأربعة

القطب الأول من المغاربة الذين كشفت الدراسة عن مزاجهم السياسي، وهو من الأقطاب الكبرى وزنًا، يضمّ مغاربة يشكون “الإرهاق السياسي”، من خلال شكّ عميق في الفاعلين لا يتحول بالضرورة إلى قطيعة، بل إلى قبول الواقع داخل حدود الممكن، مع تفضيلٍ للاستقرار أحيانًا، والتقاءٍ بين المحبطين ومن يميلون إلى الحكومة.

يشغل هذا القطب، كما تصفه الدراسة، منطقة رمادية قد لا تعادي الاحتجاج من حيث المبدأ، لكنها لا تراه طريقًا مضمونًا للتغيير، وقد تتعايش مع خطاب إصلاحي عام دون أن تتحول إلى طاقة تعبئة؛ وهو ما يفسّر حضور “التردد” بوصفه موقفًا اجتماعيًا لا يقل أثرًا عن الرفض الصريح أو التأييد الحاسم.

أما القطب الثاني فيقدّم نمطًا “تكنوقراطيًا/قانونيًا” من الموقف تجاه الأحداث السياسي، يعطي الأولوية للنظام والفعالية، ويعارض الاحتجاج، ليس رفضًا للمطالب بالضرورة، بل لأن ترتيب الأولويات بالنسبة لمغاربة هذا القطب يبدأ من ضمان الدولة للنظام أولًا، وبعدها يمكن أن يأتي التغيير.

في هذا القطب تصبح الحساسية تجاه “الفوضى” أعلى، وتبدو الثقة في أدوات الضبط والقانون أكبر من الثقة في دينامية الشارع، بما يجعل هذا القطب أقرب إلى تفضيل الإصلاح عبر الإدارة والتقنيات على حساب السياسة بوصفها صراعًا وتمثيلًا وتنافسًا.

ويجمع القطب الثالث، الذي يميل إلي التغيير، بين الميولات الإصلاحية والنزعة الراديكالية السياسية. رغبة في إصلاح مؤسسي تدريجي، مقرونة بطموح تغيير أعمق في النموذج والاتجاه، مع رفض تحويل “التكنوقراطية” إلى ستارٍ لإدامة الأمر الواقع، واعتبار الاحتجاج جزءًا من الضغط لتوسيع الممكن السياسي.

ووفق القراءة التي تقترحها الدراسة، فإن هذا القطب يعيش توترًا بين مسارين: الأول هو مسار التغيير المؤسسي، والثاني هو مسار رغبة في تحول أعمق؛ لذلك ترتفع داخله حساسية سؤال “من يملك قرار التغيير؟” وكيف تُدار السلطة وكيف يُعاد توزيع الثقة والمسؤولية.

أما القطب الرابع، فرغم صِغر حجمه نسبيًا، فهو شديد الدلالة لأنه يجسّد “الولاء” التام، بوصفه موقفًا قيميًا يجعل الاستقرار قيمة عليا، غالبًا تحت تأثير هاجس الفوضى أو رفع منسوب الوطنية كمرجعية تفسيرية وسلوكية؛ وتستمد أهميته من كونه يوضح كيف يتحول “الاستقرار” لدى جزء من الرأي العام إلى قيمة أعلى من المساءلة أو التداول.

التغيير الجذري حاضر لكنه ومتردد

عند الوصول إلى الخيار الأكثر حساسية— أي التغيير الشامل لشكل النظام السياسي—ترصد الدراسة “صورة موجية” لا حدّية. فالفكرة قد ترتفع إلى مستوى معتبر في بعض المحطات ثم تنكمش إلى مستويات هامشية جدًا في محطات أخرى، بما يوحي بمجتمع لم يحسم أمره نحو خيار جذري، ولا أغلق الباب عليه، بل يتأرجح بين رغبة تغيير عميق وتفضيل مسارات أقل مخاطرة بحسب الإحساس بالانسداد أو الانفراج.

وفي السياق نفسه، تشير الدراسة إلى أن ما بعد الخطاب الملكي ارتبط في بعض المؤشرات بتضخم مفاجئ لفكرة “إيقاف المظاهرات” التي كانت قبل ذلك شبه هامشية، قبل أن يتراجع هذا التضخم لاحقًا ويعود كمؤشر ظرفي قابل للارتداد.

كما تسجل الدراسة أن المزاج العام—الذي كان داعمًا للاحتجاج من حيث المبدأ—أظهر حساسية واضحة تجاه تدخل “السلطة الرمزية” عبر الخطاب الملكي؛ إذ ارتبط الخطاب بانخفاض ملموس في دعم المظاهرات على المدى القريب قبل أن يستعيد مؤشر الدعم للمتشاهرين جزءًا من قوته لاحقًا دون محو أثر الهبوط الأول، كما ارتبط بارتفاع نسبي في تقييم استجابة الحكومة والأمن وتراجع حدة تحميل قوات الأمن مسؤولية العنف مباشرة بعد الخطاب، قبل أن يعود التذبذب مع تغيّر الوقائع والصور والروايات المتداولة.

هذا التداخل بين “تبريد” الشارع و“ترميم” جزئي لصورة المؤسسات يضع خريطة الأقطاب الأربعة في سياقها: صراع داخل الرأي العام ليس حول شرعية الاحتجاج فقط، بل حول معنى الاستقرار وحدود القوة وإمكان المخرج المؤسساتي.

اليأس يوحّد الفقراء والشباب والنساء

تؤكد نتائج هذا لااستطلاع أن الانتماءات الطبقية والديموغرافية لا تحكم الناس حتمًا، لكنها ترجّح الميول: فالأكثر غنى يميلون أكثر إلى الولاء وتفضيل النظام، والطبقات الوسطى أقرب إلى التغيير، بينما تميل الفئات الشعبية إلى لغة الخيبة والاستقالة واللاجدوى، في انعكاس لتجربة العيش داخل توزيع غير متكافئ للأمان الاقتصادي والفرص، والقدرة على تحمّل كلفة التغيير أو كلفة استمرار الوضع القائم.

ويعمل العمر بدوره كعدسة حساسة. فالأكبر سنًا هم أقرب إلى خطاب النظام، والأعمار المتوسطة أكثر نزوعًا إلى التغيير، فيما يميل الأصغر سنًا إلى التذمر والاستقالة بوصفهما الوجه الآخر لرغبة في تغيير لا تجد طريقها المؤسسي. كما تظهر النساء أكثر ميلًا إلى قطب الخيبة/الجمود مقارنة بالرجال، وهو ما تقرؤه الدراسة في ضوء تفاوت الإحساس بالمخاطر وكلفة التعبير وحدود الفضاء العام.

بهذه الخلاصات، لا يقدّم الاستطلاع “رقمًا” عن احتجاج، بل يقدّم خريطة بلدٍ تتعايش داخله أربع عائلات كبرى من الحساسية السياسية: عائلة تُنهكها السياسة فتتعايش مع الأمر الواقع، وعائلة تؤمن بالإصلاح عبر الفعالية مع أولوية النظام، وعائلة ترى الإصلاح ممكنًا لكن لا تريد أن يتحول إلى إدارة بلا سياسة، وعائلة ولائية صغيرة لكن واضحة في جعل الاستقرار قيمة عليا.

وبين هذه العائلات، يتحول احتجاج “جيل Z” إلى مرآة للمزاج السياسي المغربي: دعمٌ واسع لحق الاحتجاج، تفاوضٌ مستمر بين الاستقرار والتغيير، وتدخلٌ خطابيّ كبير يعيد ترتيب الأوزان دون أن يُنهي التوتر أو يغلق الأسئلة.

*نشر هذا المقال ضمن العدد 93 من مجلة “لسان المغرب”، للاطلاع على العدد كاملا المرجو الضغط على الرابط